اِرسَاءُ المُحكَمَات وَ تَبدِيد الشُبَهَات فِي العَقِيدَةِ المَهدَوِيَّة

اشارة

اِرسَاءُ المُحكَمَات

وَ تَبدِيد الشُبَهَات

فِي العَقِيدَةِ المَهدَوِيَّة

الشَّيخ كَاظِمُ القُره غُولِي

تَقديم

مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

ص: 1

اشارة

مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

***

اسم الكتاب: ....اِرسَاءُ المُحكَمَات وَ تَبدِيد الشُبَهَات فِي العَقِيدَةِ المَهدَوِيَّة

المولف: الشَّيخ كَاظِمُ القُره غُولِي

تقديم: مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

رقم الإصدار : ...... 228

الطبعة : ........ الأولي 1441ه

عدد النسخ: ....... 1000

***

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظه للمركز

العراق - النجف الأشرف

هاتف: 07809744474

www.m.mahdi.com

info@mmahdi.com

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المركز:

يسعي أصحاب الدعاوي إلي إثبات مدَّعياتهم بطُرُق متعدِّدة، يهدفون من ورائها إلي إثبات ما هم عليه، وهم بذلك علي حقٍّ، إذ ما من دعوي إلَّا وهي مجرَّد نظريَّة إنْ لم يتمّ إقامة الدليل عليها.

إلَّا أنَّ الأمر غير المنهجي أنْ يستعمل البعض مغالطات لفظيَّة وشُبُهات واهية لا من أجل مجرَّد إثبات مدَّعاه، وإنَّما لأجل هدم نظريَّة الآخر، غاضًّا الطرف عن ثوابت الآخر وأُسُسه الموضوعيَّة التي لو كان منصفاً وسلَّط الضوء عليها لما وجد لمغالطاته من موضوع معها، ولوجد الحقَّ أبلجاً لا غبش فيه.

ولم يسلم الدِّين عموماً ممَّن يقصد إثارة الشُّبَه والفتن في داخله، وتاريخ الأديان عموماً حافل بالكثير من السجالات العلميَّة التي يُراد منها إثبات متبنّيات الدِّين.

وهكذا نجد أنَّ قضيَّة عظيمة في مذهبنا أُقيمت علي مفرداتها المختلفة الأدلَّة الثابتة، ودُفِعَت عنها حتَّي الأسئلة المتوقَّعة قبل صدورها من أحد. إلَّا أنَّ المناوئين لم يخمدوا سيف حقدهم ورمح شُبُهاتهم عنها، فمن ابن خلدون إلي أحمد الكاتب إلي مدَّعي المهدويَّة واليمانيَّة وغيرهم كثير.

إلَّا أنَّ المؤسف حقًّا أنْ نجد شخصاً يدَّعي معرفته بأُسُس المذهب عموماً والقضيَّة المهدويَّة خصوصاً، يبثُّ كلاماً هو أقرب إلي السُّمِّالزعاف منه إلي الحقيقة في داخل الجسد الشيعي، ويُغلِّف مغالطاته بسجعات منمَّقة، قد ينخدع بها من لا معرفة معمَّقة عنده في هذه القضيَّة.

ص: 3

لقد ابتُلينا أمس واليوم بمن لا حريجة له في الدِّين، وبمن لا يرعوي عن ضلاله ولو انكشف له الصبح وبانت له الحقيقة، وهذا من ابتلاءات هذا المذهب الحقِّ، (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (الأنفال: 37).

وكما لم نُعدَم المهرِّجين بلا دليل، فقد قيَّض الله تعالي من نذر نفسه وقلمه لتتبُّع الشُّبُهات والإجابة عنها بالأدلَّة العلميَّة الرصينة، وكشف مغالطاتها بالبيان الوافي، ومن هؤلاء الجهابذ هو سماحة العلَّامة الشيخ كاظم القره غولّي الذي لم يألُ جهداً في تتبُّع شُبُهات ومغالطات معاصرة، ألقاها بعض المتفيقهين علي برامج التواصل الاجتماعي، فكان الشيخ (حفظه الله) أنْ جمع بعضاً من مغالطاته وأجاب عنها بكلِّ شفّافيَّة ورصانة علمية، وهي الشُّبُهات التالية:

1 - لا واقعيَّة لإمكان رؤية الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمن الغيبة الكبري، ولا سبيل لقبول ما نُقِلَ في هذا المجال.

2 - عدم صحَّة الروايات الدالَّة علي ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

3 - عدم إمكان إثبات صدور التوقيعات المهدويَّة عنه عجل الله تعالي فرجه والشريفه، والتشكيك في مصداقيَّة نقل السفراء ݑ لتلك التوقيعات والتشكيك في وثاقتهم المطلقة.

ونحن إذ نُقدِّم كتاب (إرساء المحكمات وتبديد الشُّبُهات في العقيدة المهدويَّة)، نُذكِّر بأنَّه قد صدر لسماحة المؤلِّف كتابان مهدويّان عن مركزنا، وهما:

1 - علامات الظهور (قراءة في المعرفة والتطبيق).

2 - نظرات في رواية الوصيَّة (دراسة نقديَّة لشُبُهات مدَّعي اليمانيَّة).نسأل الله عزوجل أنْ يجعلها ذخراً له ولنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلَّا من أتي الله بقلب سليم، وأنْ يُعجِّل بظهور المولي صاحب العصر والزمان عجل الله تعالي فرجه والشريفه، ليكشف لنا الحقَّ ويُبعِد عنّا شُبُهات المغرضين والمنافقين، إنَّه سميع مجيب.

مركز الدراسات التخصُّصيَّة

في الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه والشريفه

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المؤلِّف:

الحمد لله، وصلّي الله علي خير خلقه المصطفي الأمين، وآله الطيِّبين الطاهرين.

وبعد..

فإنَّ عالم الفكر عالم مليء بالحركة واكتشاف الجديد واستيضاح المستكشف وتبدُّل الرؤي وتشذيب المتبنّي، فإنْ سكن انتفي كونه فكراً.

والفكر الدِّيني لا يخرج عن هذه القاعدة، لا في جانب المعتقد ولا في الأخلاق ولا في الفروع، صحيح أنَّ الشريعة يُفتَرض أنْ تُقدِّم للناس ما يدفع كلَّ شكٍّ ويمنع كلَّ لبس؛ لأنَّ ما تُقدِّمه الشريعة السماويَّة لم تستعمل فيه جهة التشريع استدلالاً قد تكون إحدي مقدّماته استظهاريَّة أو ظنّيَّة، وإنَّما إحاطة تلك الجهة بعالم الوجود علي عظمته وكثرة تفاصيله من خلال حضور كلِّ ما في الوجود عند بارئه، (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً 126) (النساء: 126) فعلمه تعالي بكلِّ الأشياء حضوري.

إلَّا أنَّ الأدوات التي وصلت إلينا من خلالها تفاصيل الرؤي الدِّينيَّة لم تكن قطعيَّة، مضافاً إلي ضياع الكثير من الموروث الشرعي، ما أدّي إلي منع حصول الجزم في تلك التفاصيل. ولو كانت الجهة التي تحكي لنا تفاصيل الشريعة معصومة عن الخطأ لما كان للفكر في الدِّين مجال، وإنَّما تتحوَّل من فكر ديني إلي رؤية دينيَّة لا تقبل الخطأ ولا تقبل رؤية أُخري في مقابلها. لكن غياب القناة المعصومة والمطَّلعة علي كلِّ ما يرجع إليالرؤية الدِّينيَّة، مع ما ذكرنا من

ص: 5

ضياع الكثير من الموروث ووجود الطُّرُق الظنّيَّة، فتح الباب أمام البحث والمناقشة في الكثير من المسائل الدِّينيَّة.

وأضيف إلي ذلك انفتاح الأذهان علي تساؤلات جديدة، وتصادم الرؤي المستقاة من الشريعة أو التصوُّرات عنها مع رؤي لأيدولوجيّات أُخري، وتقدُّم العلوم، كلُّ ذلك أدّي إلي تفاعل الفكر وتأثُّر الرؤي والتصوُّرات.

ومن هنا كان الناس في مراجعة دائمة، وفحص مستمرٍّ، وتدقيق لا ينقطع لمتبنياتهم فيما يرجع إلي الشريعة.

وقد حظي الجانب الغيبي في الدِّين بالكثير من البحث والاهتمام، والناس بحكم نزعتها المادّيَّة لا تذعن نفوسها بسهولة لإخبارات الغيب، ومن هنا كان أوَّل وصف للمتَّقين في سورة البقرة أنَّهم يؤمنون بالغيب: (الم 1 ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدي لِلْمُتَّقِينَ 2 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة: 1 - 3).

وقد حاول العديد من الباحثين إرجاع كلِّ المعجزات السماويَّة إلي ما يطابق المُخرج العلمي والمُعطي البحثي، لتتحوَّل تلك المفردات الخارجة عن المألوف إلي مطابق لقوانين المادَّة.

وممَّا ثقل علي النفوس مفردة الإمام الحجَّة عجل الله تعالي فرجه والشريفه، فإنَّها مفردة في غاية الغرابة، غرابة في حمله وولادته ونجاته من أعدائه الذين كانوا ينتظرون ولادته لينقضوا عليه فيصفوا لهم حكمهم؛ إذ كانت نجاته خطراً يُهدِّدهم وبقاؤه كابوساً يقضُّ مضاجعهم. ومن أغرب الجهات عمره الطويل وغيبته كلَّ هذه المدَّة من الزمان، ولولا خبر الغيب الذي لا يقبل الخطأ لما قبلت النفوس بحياته عجل الله تعالي فرجه والشريفه كلَّ هذه المدَّة وإنْ لم يمنع من ذلك عقل أو عدم شبيهفي التاريخ.

فكان خبر الغيب طوق نجاة في بحر همزات الشيطان وشكوك النفوس التي طالما كان الحسُّ والمألوف أساس انصياعها واستئناسها.

ص: 6

ولا يتيسَّر لكلِّ أحد أنْ يتمسَّك بحبل الغيب؛ لأنَّه لا يُمسِك بقوَّة يد وإنَّما بقوَّة إيمان وشدَّة اطمئنان.

(قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلي وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة: 260).

وما زال غربال الابتلاء يعمل ليُميِّز الخبيث من الطيِّب، ويفصل الزؤان عن البرِّ.

وما فتئ الامتحان منبسطاً علي كلِّ مفردات الحياة، اقتضاءً لعلَّة الخلقة في هذه النشأة.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: 2).

والتي كانت علَّة لجعل ما علي الأرض زينة.

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَي الْأَرضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً 7) (الكهف: 7).

ولئن أخرجت شدَّة الابتلاء طوائف من الناس فإنَّها تُرسِّخ إيمان من نجا منها.

والأمواج الكبيرة يكثر زبدها ولكن يصفو الماء المتخلِّف عنها.

وما زالت شدَّة الابتلاء باب خير وبركة تصنع رجالاً كزُبَر الحديد لا تهزُّهم الرياح العواصف.

إنَّ شدَّة الابتلاء كالسور الذي تحدَّثت عنه سورة الحديد (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ 13) (الحديد: 13)، فهي مهلكة لأقوام ومرقاة لآخرين.

وقد تناقلت الناس في أيّامنا هذه مجموعة من الشُّبُهات مرتبطة بالقضيَّة المهدويَّة، فأحببت أنْ أتعرَّض لها بشيء من البحث الموضوعي، عسي أنْ يجعل الله تعالي في ذلك دفعاً للإشكال ورفعاً للشبهة.

ص: 7

لقد فاقم المشكلة طرح المناقشات أمام عامَّة الناس وفي وسائل التواصل الاجتماعي. وإذا تدخَّل غير المتخصِّص ضاعت الموازين. ونحن لا نُنكِر أنَّ بعض المقاطع التسجيليَّة قد تُقتَطع من سياقها، فينعكس ما يُفهَم منها، لكنَّنا لسنا بصدد تقييم القائل، ولا بصدد نسبة المفهوم من تلك المقاطع إليه. وإنَّما يُعنينا دفع شُبُهات تولَّدت من هذا التسريب أو ذاك، وحلُّ إشكالات تلاقفتها الإمعات ووظفته ضدَّ المذهب فئات. وتلك الآثار لا ربط لها بنيَّة المتحدِّث وإنَّما بما فهمته عوامُّ الناس، وهو ما قد لا يكون له أيَّ ربطٍ بما عناه المتكلِّم.

وقد كان دخولي في هذه المباحث نزولاً عند رغبة بعض الإخوة، واستجابةً لطلب شديد منهم.

أسأل الله التوفيق لهم ولنا، وأنْ يجعل في جهدي هذا نفعاً للمؤمنين، إنَّه خير ناصر ومعين.

الشيخ كاظم القرة غولّي

ص: 8

(1)رؤية الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمن الغيبة

اشارة

ص: 9

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلّي الله علي خير الوري نبيِّه الكريم وآله الطيِّبين الطاهرين.

وبعد، فما زالت قضيَّة الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه والشريفه وغيبته الغريبة كلُّ الغرابة لخروجها عن المألوف مثاراً للبحث والتدقيق واختلاف الآراء والأنظار. ومن الجزئيّات التي وقعت محلّاً للاختلاف ما نسمعه من لقاء أُناس به في زمان غيبته ومشاهدة تلك الطلعة وذلك الوجود المقدَّس.

ومثل هذا الادِّعاء وإنْ كثر من أُناس لم يُعرَف لهم سابقة في دين ولا منزلة في علم أو معرفة ممَّا يعني قوَّة احتمال كذب مثل هذا الادِّعاء أو نشوئه من توهُّم، إلَّا أنَّ ذلك ليس مسوِّغاً للإنكار ما دام لم يقم دليلٌ نافٍ لها علي نحو البتِّ والجزم.

وقد يتحدَّث البعض بضرس قاطع عن عدم صحَّة هذه الدعاوي جملةً وتفصيلاً، ونحن في مقام ما تقتضيه الموضوعيَّة نضع ما يصلح أنْ يكون دليلاً للنفي علي ميزان البحث، فنقول:

وجوه المنع:

اشارة

إنَّ الأدلَّة التي يمكن الاستناد إليها لا تخرج عن أربعة: القرآن، والسُّنَّة، والعقل، والإجماع.

القرآن الكريم:

لم يرد في القرآن بيان يمكن الاستناد إليه للقول بعدم إمكان رؤية

ص: 11

الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في غيبته، بل لا يوجد فيه دليلٌ مستقلٌّ عن أصل الغيبة، فضلاً عن وجود آية تدلُّ علي بعض أحكامها التي منها إمكان اللقاء بالإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمن الغيبة.

نعم وردت روايات في تفسير قوله تعالي: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ 30) (المُلك: 30) بغيبة الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه، وقد نقل صاحب (نور الثقلين) في تفسيره روايات في ذلك.

ففي صحيحة عليِّ بن جعفر، عن أخيه (عليه السلام)، قال: قلت له: ما تأويل قول الله عزوجل: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ 30) )الملك: 30(؟ فقال: «إذا فقدتم إمامكم فلم تروه، فماذا تصنعون؟»((1)).

ونقل عن الصدوق (رحمه الله) بإسناده إلي أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزوجل: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ 30)، قال: «هذه نزلت في الإمام القائم، يقول: إنْ أصبح إمامكم غائباً عنكم لا تدرون أين هو فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات والأرض وحلال الله وحرامه؟»، ثمّ قال (عليه السلام): «والله ما جاء تأويل هذه الآية، ولا بدَّ أنْ يجيء تأويلها»((2)).

وفي ثالثة عن عليِّ بن جعفر، عن أخيه موسي بن جعفر (عليه السلام)...، قال:«أرأيتم إنْ أصبح إمامكم غائباً فمن يأتيكم بإمام مثله»((3))، وفي سندها سهل بن زياد.

وما ورد في قوله تعالي: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ 15) (التكوير: 15).

ص: 12


1- ()1() نور الثقلين (ج 5/ ص 386 و387/ ح 40)، عن كمال الدِّين (ص 360/ باب 34/ ح 3).
2- ()2() نور الثقلين (ج 5/ ص 387/ ح 41)، عن كمال الدِّين (ص 325 و326/ باب 32/ ح 3).
3- ()1() نور الثقلين (ج 5/ ص 386/ ح 37).

فقد روي الصدوق (رحمه الله) في (كمال الدِّين)، قال: حدَّثنا أبي ومحمّد بن الحسن (رضي الله عنهما)، قالا: حدَّثنا سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميري، قالا: حدَّثنا أحمد بن الحسين بن عمر بن يزيد، عن الحسين بن الربيع المدائني، قال: حدَّثنا محمّد بن إسحاق، عن أسيد بن ثعلبة، عن أُمِّ هانئ، قالت: لقيت أبا جعفر محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهما السلام)، فسألته عن هذه الآية: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ 15 الْجَوارِ الْكُنَّسِ 16) )التكوير: 15 و16(، فقال: «إمام يخنس في زمانه عند انقضاء من علمه سنة ستِّين ومائتين، ثمّ يبدو كالشهاب الوقّاد في ظلمة الليل، فإنْ أدركتِ ذلك قرَّت عيناكِ»((1)).

وهذا الوارد وإنْ لم يكن في معني التفسير، إذ هو نوع تأويل، لكن الآية كيف كان قد أُوِّلت به.

وما ورد في قوله تعالي: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة: 3).

فقد روي الصدوق (رحمه الله) في (كمال الدِّين)، قال: حدَّثنا عليُّ بن أحمد بن محمّد الدقّاق 2، قال: حدَّثنا أحمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدَّثنا موسي بن عمران النخعي، عن عمِّه الحسين بن يزيد، عن عليِّ بن أبي حمزة، عن يحيي بن أبي القاسم، قال: سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (الم 1 ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدي لِلْمُتَّقِينَ 2 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ))البقرة: 1 - 3(، فقال: «المتَّقون شيعة عليٍّ (عليه السلام)، والغيب فهو الحجَّة الغائب، وشاهد ذلك قول الله عزوجل: (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ 20) )يونس: 20(»((2)).

وقوله تعالي: (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ 8) (المدَّثِّر: 8).

ص: 13


1- ()2() كمال الدِّين (ص 324 و325/ باب 32/ ح 1).
2- ()1() كمال الدِّين (ص 340 و341/ باب 33/ ح 20).

فقد روي النعماني (رحمه الله) في (الغيبة)، قال: محمّد بن يعقوب، قال: حدَّثنا أبو عليٍّ الأشعري، عن محمّد بن حسّان، عن محمّد بن عليٍّ، عن عبد الله بن القاسم، عن المفضَّل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه سُئِلَ عن قول الله عزوجل: (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ 8)، قال: «إنَّ منّا إماماً مستتراً، فإذا أراد الله عزوجل إظهار أمره نكت في قلبه نكتة، فظهر، فقام بأمر الله عزوجل»((1)).

وقوله تعالي: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (لقمان: 20).

ففي الرواية عن موسي بن جعفر (عليه السلام)، قال: «النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب، يغيب عن أبصار الناس شخصه، ويظهر له كنوز الأرض ويُقرَّب عليه كلَّ بعيد»((2)).

لكن هذه الروايات لم تتعرَّض لإمكان الرؤية في زمن الغيبة من عدمه.

نعم، يمكن أنْ يقال: إنَّ آيات سورة الكهف الواردة في قصَّة الخضر (عليه السلام) ولقاء موسي (عليه السلام) به فيه دلالة علي أنَّ الغيبة ليست مانعة من اللقاءبالغائب، وحكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.

وبناءً علي ذلك تكون هذه الآيات بضميمة المماثلة في حيثيَّة الغيبة دالَّة علي أنَّ الغائب يمكن أنْ يُري، فأدلّ دليل علي الإمكان الوقوع.

الإجماع:

ليس من الممكن الاستناد للإجماع في مسألتنا؛ لأنَّه لا يتحقَّق عادةً في المسائل الاعتقاديَّة، إذ ليس لكلِّ فقيه رأي في المسائل الكلاميَّة، نعم قد يتحقَّق ذلك في المسائل التي لا بدَّ من تحقيقها لانعكاسها علي استنباط الحكم الشرعي،

ص: 14


1- ()2() الغيبة للنعماني (ص 193/ باب 10/ فصل 4/ ح 40).
2- ()3() بحار الأنوار (ج 51/ ص 64)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) بتفاوت في كمال الدِّين (ص 368 و369/ باب 34/ ح 6).

كالبحث في أنَّ المعصوم هل يصدر منه المكروه أو لا، فإذا قيل بالنفي أمكن الاستدلال علي أنَّ فعل المعصوم لشيء دليل علي عدم كراهته، وإذا قيل بإمكان صدور المكروه منه فهل يواظب المعصوم علي فعله؟ فإنْ قيل: لا، أمكن إثبات عدم كراهة الفعل إذا واظب المعصوم علي تركه. هذا إذا لم يأخذها الفقيه من علم الكلام كأصل موضوع.

وكيف كان، فليس من السهل اتِّفاق الفقهاء علي مسألة خارج دائرة الاستنباط أو قواعدها العامَّة. والذي يمكن أنْ يتحقَّق هو عدم الخلاف، ولا حجّيَّة له في الفروع فضلاً عن غيرها. هذا أوَّلاً.

وثانياً: أنَّ أيًّا من مباني حجّيَّة الإجماع لا يجري في المسائل الاعتقاديَّة.

أمَّا الإجماع الدخولي الذي يعني العلم بدخول المعصوم في الفقهاء الذين أفتوا في هذه المسألة أو تلك بفتوي واحدة، فهو واضح البطلان، إذ من أين لنا أنْ نجزم بدخول المعصوم في هؤلاء الفقهاء؟

وأمَّا الإجماع التشرُّفي الذي يعني أنَّ فقيهاً تشرَّف بلقاء المعصوم (عليه السلام) وأخذ منه الحكم في مسألةٍ ما، ولمَّا أراد أن ينقل ذلك لم يرد أنْيُصرِّح بأنَّه أخذها من المعصوم (عليه السلام)، فنسبها إلي اتِّفاق الفقهاء أو إجماعهم. ففي حمل إجماعه المدَّعي علي التشرُّفي مخالفة واضحة لظاهر كلامه، وهذا بعيد في نفسه ويبقي في حدود الإمكان، بل الإمكان علي بعد. علي أنَّ ثبوت الإجماع التشرُّفي ينفي عدم إمكان التشرُّف بلقاء الإمام (عليه السلام) كما هو واضح، فكلُّ من عدَّ الإجماع التشرُّفي من أقسام الإجماع، أو ردَّه من جهة أنَّه مخالف لظاهر عبارة ناقل الإجماع، فهو قائل بإمكانه.

وأمَّا الإجماع الحجَّة عقلاً من باب قاعدة اللطف الذي يعني أنَّ لطف الله تعالي - وهو الذي يقتضي فعل كلِّ ما يمكن أن يُقرِّب من الطاعة ويُبعِّد من

ص: 15

المعصية - يمنع أنْ يترك الله تعالي علماء الأعصار والأمصار يتَّفقون علي رأي واحد مخالف للواقع.

فيردُّ الاستدلال به أنَّ المورد ليس ممَّا فيه إطاعة أو معصية أوَّلاً.

ولم يتعرَّض فيه الفقهاء جميعاً للقول في المسألة، بل إنَّ أكثرهم لا يتحدَّثون في هذه المسألة ثانياً.

وثالثاً: مع عدم العلم بالمخالفة للحكم الواقعي أين المعصية التي يقتضي اللطف فعل ما يُبعِّد عنها؟

ورابعاً: لو قلنا بتماميَّة قاعدة اللطف وتماميَّة تطبيقها علي دلالة الإجماع، فإنَّها ستكون أخصُّ من المدَّعي، فإنَّه إذا كان الحكم الواقعي هو الإباحة أو الكراهة وقام الإجماع علي الوجوب، فهل يقتضي اللطف الذي هو بمعني فعل كلِّ ما يُقرِّب من الطاعة ويُبعِّد عن المعصية منع تحقُّقه؟ فهل للإباحة إطاعة في الواقع ليكون إتيان ما قام الإجماع علي وجوبه مبعِّداً عن الإطاعة؟ وكذا الكلام في الكراهة.

ومثل هذا الكلام يجري إذا كان الحكم الواقعي هو الاستحباب وقامالإجماع علي الوجوب، فإبقاء الإجماع علي حاله يعني إتيان الناس المطيعين للحكم الثابت بالإجماع وامتثاله، وهذا بالنسبة للواقع إتيان المستحبِّ فيتحقَّق ملاك المستحبِّ ولو بإتيان متعلَّقه بداعي الوجوب.

وبنفس الطريقة يخرج ما لو قام الإجماع علي الحرمة وكان الحكم في الواقع هو الإباحة أو الكراهة أو الاستحباب حتَّي.

نعم يبقي تحته ما لو كان الحكم الواقعي إلزاميًّا - أي وجوب أو حرمة - وقام الإجماع علي حكم غير إلزامي. أو قام الإجماع علي حكم إلزامي مقابل له، أي كان الحكم الواقعي هو الحرمة وقام الإجماع علي الوجوب أو بالعكس.

ص: 16

وخامساً: لِمَ اختصَّت قاعدة اللطف بالإجماع؟ فلو جرت في الإجماع فلِمَ لا تجري إذا كان المتَّفقون علي الفتوي يُشكِّلون نسبة (90%) من الفقهاء، بل حتَّي (99%) منهم مع أنَّهم لا يذهبون إلي حجّيَّة اتِّفاق مثل هذه النسبة؟ ولو كان اللطف هو المدار علي الحجّيَّة لما وُجِدَ فرق كبير في جريانه بين الإجماع وبين اتِّفاق الغالبيَّة المطلقة.

وأمَّا الإجماع الحجَّة علي أساس كاشفيَّته عن دليل لو وصل إلينا لقلنا بنفس ما قال به المجمعون، فلا ينفع أيضاً إلَّا إذا كانت المسألة قابلة للتعبُّد، وسيأتي أنَّه لا مجال للتعبُّد في مثل هذه المسألة. هذا أوَّلاً.

وثانياً: أنَّ الإجماع الكاشف قطعاً عن الحكم الشرعي لم يتحقَّق في مسألتنا هذه، أي لم تتحقَّق صغري الإجماع الكاشف عن الحكم الواقعي، بل هو اتِّفاق في الفتوي يكشف بنحو القطع عن وجود دليل علي الحكم.

فإنْ قيل: كيف قال الفقهاء بهذه المقالة اعتماداً علي ذلك الدليل؟ فإنَّ نفس ذهابهم لهذا الرأي اعتماداً علي ذلك الدليل المفترض الوجود يكشف عن إمكان الاستناد إليه لو وصل إلينا، وهذا يعني أنَّنا سنوافقهم في الرأي.

قلنا: إنَّهم أو علي الأقلّ بعضهم المعتدُّ يقول بالتعبُّد في تفاصيل الاعتقاد وجزئيّاته، أي بالإمكان الاستناد إلي خبر ثقة دلالته بنحو الظهور، فيحصل التعبُّد في سنده وفي دلالته بحكم الأدلَّة الدالَّة علي حجّيَّة خبر الثقة وحجّيَّة الظهور، ونحن لا نلتزم بأيٍّ من الحجَّيَّتين في مسائل الاعتقاد.

وثالثاً: إنَّ مثل هذه المسائل لم تُبحَث بالنحو الذي بُحِثَت فيه مسائل الفروع بحيث تستوعب جميع وجوه الدلالة الممكنة وتُوضَع في ميزان التحقيق والتدقيق. إنَّ من الطبيعي أنْ يتَّبع فقيه فيها رأي غيره. وهذا يعني عدم الاطمئنان بأنَّ إجماعهم سيكون كاشفاً عن دليل لو وصل إلينا لوافقناهم في الرأي. فلا يكون الإجماع حينها من وسائل الإثبات الوجداني للدليل.

ص: 17

وأمَّا الإجماع الحجَّة علي أساس الملازمة العاديَّة أو الاتِّفاقيَّة والذي يكون كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) حدساً، وقد مثَّلوا للملازمة العاديَّة بما لو اتَّفق فقهاء جميع العصور دون القول بقاعدة اللطف، ومثَّلوا للملازمة الاتِّفاقيَّة باتِّفاق فقهاء عصر واحد، فإنَّه بالإضافة إلي عدم وجود مثل هذا الاتِّفاق في مسألتنا، لا يوجد ما يدلُّ علي هذه الملازمة علي فرض وجود اتِّفاق، والشاهد علي ذلك أنَّه قد يتَّفق الفقهاء في بعض الموارد علي إجراء البراءة علي اختلاف أزمنتهم، وعند إجرائها نحتمل أنَّ الحكم الواقعي هو الحرمة، ولو كانت الحرمة ثابتة كحكم واقعي علي مرِّ العصور ومع ذلك جرت البراءة، فهذا يعني إمكان اتِّفاق الفقهاء علي حكم مخالف للواقع في جميع الأعصار فضلاً عن فقهاء عصر واحد. بل يمكن أنْ يكون قوله تعالي: (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة: 101) شاهداً علي إمكان مخالفة الحكم الذي لم يظهر علي مرِّ العصور.

ببيان: أنَّ بعض الأحكام واصلة إلي كلِّ ما تقتضيه فعليَّتها، نعم هي لم تبد للناس وتظهر لهم، فإذا لم يسأل عنها فإنَّ ذلك يعني احتمال أنْ تكون ممَّا يسوؤنا إبداؤها. والشارع نهانا عن السؤال عنها لكي لا تظهر، فيترتَّب علي ذلك لزوم الالتزام بها، فبواسطة ترك السؤال عنها نتخلَّص من تبعة لزوم الالتزام بها وهو الذي يسوؤنا. وهذا يعني إمكان وجود أحكام يتطلَّب دخولها في العهدة السؤال عنها الذي نهينا عنه، وبترك السؤال عن المعصوم (عليه السلام) عنها تكون الفتوي علي خلافها علي مرِّ العصور. ولا يأتي هنا احتمال اختلاف الفتوي؛ لأنَّها لم تُبيِّن، فلا مجال للاختلاف في فهم ذلك البيان لتختلف الفتوي.

علي أنَّ في دعوي الملازمة الاتِّفاقيَّة إشكال إثباتي، حاصله: أنَّه وإنْ أمكن عدم الانفكاك بين اتِّفاق فقهاء عصر واحد علي فتوي وموافقة رأي

ص: 18

المعصوم (عليه السلام) لهم، لكن الأشياء الاتِّفاقيَّة لا يمكن إقامة البرهان عليها، بل يمكن الاطِّلاع عليها وإدراكها لا بتوسُّط برهان، اللَّهُمَّ إلَّا إذا كان ذلك بملاحظة مفردات مشابهة تكون فيها الموافقة بين الطرفين الذين نحتمل اتِّفاق تواجدهما معاً، دون أن نقف علي برهان يثبت أنَّ ما وقع ضروري وغير قابل للانفكاك، ثمّ نُعمِّم ذلك كلٌّ إلي مفردة مشكوكة.

ومثل هذا الطريق غير متيسِّر في محلِّ كلامنا، إذ من أين لنا أنْ نطَّلع علي أنَّه في كلِّ المرّات التي حصل فيها اتِّفاق من الفقهاء علي حكم كان رأي المعصوم موافقاً لهم؟

وهكذا نصل إلي أنَّ القول بحجّيَّة الإجماع عند هؤلاء بعد عدم وجود دليل عليه ناشئ من السعي لفذلكة هذا القول بعد أنْ قال به فقهاء العامَّة، وربَّما الخاصَّة المتقدِّمين القائلين بأنَّ حجّيَّته من جهة دخول المعصوم (عليه السلام)في المجمعين، وأتباع الشيخ الطوسي (رحمه الله) القائلين: إنَّ حجّيَّته قد ثبتت بالملازمة العقليَّة المستفادة من قاعدة اللطف. وحين لم ينهض عندهم هذان الوجهان حاولوا توجيهها من خلال الملازمة العاديَّة أو الاتِّفاقيَّة، والكلام الأخير خاصٌّ بالملازمة الاتِّفاقيَّة.

نعم، يمكن أنْ توجد ملازمة اتِّفاقيَّة، ولكن لا يمكن البناء عليها ما لم يقم دليل بيِّنٌ يُثبِتها، ومجرَّد الإمكان غير مُجدٍ.

ولو أغمضنا النظر عن كلِّ ذلك، فإنَّ الإجماع هنا محتمل المدركيَّة إنْ لم يكن مدركيًّا، حيث إنّا نكاد نجزم أنَّ مستند المجمعين لو وُجِدَ الإجماع هو الرواية الآتية أو نظائرها. ولو لم نجزم فمن المحتمل جدًّا أنْ يكونوا استندوا في رأيهم لمثل هذه الرواية. وقد ثبت في محلِّه أنَّ الإجماع المحتمل المدركيَّة فضلاً عن المدركي ليس حجَّة، إذ في مثله يُرجَع إلي نفس الدليل الذي استند إليه المجمعون

ص: 19

ليُري هل هو تامُّ الدلالة أو لا. وسيأتي أنَّه غير تامِّ الدلالة. ولو تمَّت دلالته فلا حجّيَّة لها؛ لانخرام شرط الحجّيَّة من خلال وجود القرينة علي الخلاف، بل من خلال تحقُّق العلم علي الخلاف.

وكيف كان، فالإجماع غير متحقِّق في المسألة، ولو كان لكان عدم الخلاف وهو ليس حجَّة؛ لأنَّه بمنزلة الإجماع المنقول الذي لا يري فقهاؤنا حجّيَّته إلَّا قلَّة كصاحب الرياض (رحمه الله).

بل عدم الخلاف غير متحقِّق، إذ إنَّ الكثير من الفقهاء لم يُنكِروا علي الأعاظم الذين نُقِلَ عنهم اللقاء بالإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في غيبته.

بل إنَّ بحثهم للإجماع التشرُّفي وحجّيَّته دليل علي عدم إنكار إمكان اللقاء بالإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه. ومن أشكل علي الإجماع التشرُّفي لم يُشكِل من منطلقعدم القبول بإمكان اللقاء في زمن الغيبة.

وبعد كلِّ هذا هل تعتقد بوجود اتِّفاق علي عدم إمكان رؤية الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمن الغيبة أو حتَّي عدم خلاف؟! وعلي فرض تحقُّقه فإنَّه لا حجّيَّة له كما تقدَّم.

العقل:

لا سبيل للعقل إلي نفي الإمكان في موضوعة مشاهدة الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمن الغيبة، ويكفي في إثبات الإمكان وقوع ما يشابهه، وأقرب ما يشابه غيبته عجل الله تعالي فرجه والشريفه غيبة الخضر (عليه السلام)، والقرآن يُحدِّثنا أنَّه قد تيسَّر لموسي (عليه السلام) أنْ يلتقيه.

(وَإِذْ قالَ مُوسي لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّي أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً 60 فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً 61 فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً 62 قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَي الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ

ص: 20

سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً 63 قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلي آثارِهِما قَصَصاً 64 فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً 65 قالَ لَهُ مُوسي هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلي أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً 66...) إلي آخر الآيات (الكهف: 60 - 82).

والروايات تُحدِّثنا عن لقاءاته برسول الله (صلي الله عليه وآله) وبأمير المؤمنين (عليه السلام)((1))،وبالأئمَّة (عليهما السلام)((2))، فإذا جاز لقاء الخضر (عليه السلام) بأحد من الأحياء، فلِمَ لا يمكن لقاء الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في غيبته مع الناس؟

وإنْ كان الوجه في حكم العقل أنَّ الحكمة الداعية إلي تغييبه عجل الله تعالي فرجه والشريفه لا بدَّ أنْ تكون داعية لأنْ لا يشاهده أحد فيها، فيردُّه:

1 - عدم جريان بعض الحِكَم المذكورة في الروايات وغيرها لغيبته، بل

ص: 21


1- ()1() من أمثلة ذلك ما رواه المفيد بالإسناد عن ابن نباتة، قال: كان أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) يُصلّي عند الأُسطوانة السابعة من باب الفيل، إذ أقبل عليه رجل بردان أخضران وعليه عقيصتان سوداوان، أبيض اللحية، فلمَّا سلَّم أمير المؤمنين (عليه السلام) من صلاته أكبَّ عليه فقبَّل رأسه، ثمّ أخذ بيده فأخرجه من باب كندة، قال: فخرجنا مسرعين خلفهما ولم نأمن عليه، فاستقبلنا (عليه السلام) في جارسوج كندة قد أقبل راجعاً، فقال: «ما لكم؟»، فقلنا: لم نأمن عليك هذا الفارس، فقال: «هذا أخي الخضر، ألم تروا كيف أكبَّ عليَّ؟»، قلنا: بلي، فقال: «إنَّه قال لي: إنَّك في مدرة لا يريدها جبّار بسوء إلَّا قصمه الله، واحذر الناس، فخرجت معه لأُشيِّعه، لأنَّه أراد الظهر». (أمالي الطوسي: ص 51/ ح 67/36).
2- ()1() روي الصدوق في كمال الدِّين (ص 390 و391/ ما روي من حديث الخضر (عليه السلام)/ ح 4)، بالإسناد عن الرضا (عليه السلام)، قال: «إنَّ الخضر شرب من ماء الحياة، فهو حيٌّ لا يموت حتَّي يُنفَخ في الصور، وإنَّه ليأتينا فيُسلِّم علينا فنسمع صوته ولا نري شخصه، وإنَّه ليحضر حيث ما ذُكِرَ، فمن ذكره منكم فليسلم عليه، وإنَّه ليحضر الموسم كلَّ سنة، فيقضي جميع المناسك، ويقف بعرفة، فيُؤمِّن علي دعاء المؤمنين، وسيُؤنِس الله به وحشة قائمنا في غيبته، ويصل به وحدته».

كلُّها في منع رؤيته من بعض الخواصِّ، كخوف الذبح((1))، والحرص علي أنْ لا يكون في رقبته بيعة لأحد((2))، وكون الغيبة عقوبة وأثراً لظلم الناس وتمحيص المؤمنين((3))، وإجراء سُنَن الأنبياء السابقين (عليهما السلام) فيه((4))،وإخراج المؤمنين من صلب الكافرين((5))، وغير ذلك((6)).

ص: 22


1- ()2() دلَّت علي ذلك جملة من الروايات، منها صحيحة زرارة التي رواها الصدوق في كمال الدِّين (ص 481/ باب 44/ ح 9)، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إنَّ للقائم غيبة قبل ظهوره»، قلت: ولِمَ؟ قال: «يخاف»، وأومأ بيده إلي بطنه، قال زرارة: يعني القتل.
2- ()3() ورد ذلك في عدد غير قليل من الروايات، ومنها صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «صاحب هذا الأمر تُعمي ولادته علي هذا الخلق، لئلَّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج» (كمال الدِّين: ص 479/ باب 44/ ح 1).
3- ()4() لم أجد ذلك في الروايات، ولكنَّه ورد في كلمات العلماء، ولعلَّ ذهابهم إلي ذلك لالتزامهم بقاعدة اللطف التي تقتضي وجود الإمام بين ظهراني الأُمَّة، وحين رأوا أنَّ ذلك لا يتناسب مع الغيبة وجَّهوا الأمر بأنْ لم تكن من الله ابتداءً، وإنَّما كان ذلك أثراً لتقصير الناس، والاعتبار لا يساعد علي هذا الوجه، فضلاً عن أنَّ أصل تطبيق قاعدة اللطف في المقام محلُّ إشكال، هذا لو تمَّت قاعدة اللطف.
4- ()5() روي الصدوق بإسناده عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ للقائم منّا غيبة يطول أمدها»، فقلت له: يا بن رسول الله، ولِمَ ذلك؟ قال: «لأنَّ الله عزوجل أبي إلَّا أنْ تجري فيه سُنَن الأنبياء (عليهما السلام) في غيباتهم، وإنَّه لا بدَّ له يا سدير من استيفاء مُدَد غيباتهم، قال الله تعالي: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) )الانشقاق: 19(، أي سُنَن من كان قبلكم» (كمال الدِّين: ص 480 و481/ باب 44/ ح 6).
5- ()1() روي الصدوق في علل الشرائع (ج 1/ ص 147/ باب 122/ ح 2)، وكمال الدِّين (ص 641) عن ابن أبي عمير مرسَلاً، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما بال أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقاتل مخالفيه في الأوَّل؟ قال: «لآية في كتاب الله عزوجل: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) )الفتح: 25(»، قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال: «ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، فكذلك القائم (عليه السلام) لن يظهر أبداً حتَّي تخرج ودائع الله عزوجل، فإذا خرجت ظهر علي من ظهر من أعداء الله عزوجل فقتلهم».
6- ()2() منها كراهة الله أنْ يجاوروا قوماً، وقد جاء في رواية مروان الأنباري عن الباقر (عليه السلام): «إنَّ الله إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم» (علل الشرائع: ص 244/ باب 179/ ح 2).لكن في دلالة الرواية علي حكمة الغيبة تأمُّل، وإنْ كان قد ذكره في البحار (ج 52/ ص 90) في علل الغيبة. ومنها امتحان الخلق، فمن رواية رواها زرارة عن الصادق (عليه السلام) وهي صحيحة في بيان حكمة من حِكَم الغيبة، قال (عليه السلام): «لأنَّ الله عزوجل يُحِبُّ أنْ يمتحن خلقه، فعند ذلك يرتاب المبطلون» (كمال الدِّين: ص 346/ باب 33/ ح 32).

أمَّا خوف الذبح فلأنَّه لم يأذن الله تعالي أنْ تكون الرؤية متيسِّرة لكلِّ أحد، فلم يتحقَّق ما يوجب الخوف.

ومثل ذلك الحرص علي أنْ لا تكون في رقبته بيعة لأحد، فإنَّ مجرَّدالرؤية في حالات نادرة من أُناس لهم خصوصيّات عالية في التقوي والدِّين لا يستلزم أخذ البيعة منه عجل الله تعالي فرجه والشريفه لحاكم في زمان المشاهدة.

نعم، لو كانت المشاهدة ممكنة لعامَّة الناس أو في دائرة واسعة منهم في الحدِّ الأدني لاستدعي ذلك لفت الأنظار إليه وإظهار الاهتمام به، وهذا ما سيدفع الحُكّام الظالمين إلي السعي لإدخاله ضمن دائرة المطيعين والخاضعين لهم. وإذا التفتنا إلي أنَّه عجل الله تعالي فرجه والشريفه لا يُمثِّل نقطة استقطاب لأبناء المجتمع فقط، بل يُمثِّل أيضاً صاحب الحقِّ في تسنُّم منصب إدارة أمر المجتمع وقيادة الدولة، اتَّضح أنَّ حُكّام الجور سوف لن يتركوه دون أنْ يُظهِر لهم الطاعة والخضوع. لكن المفروض أنَّ دائرة المشاهدة ضيِّقة جدًّا في الكمِّ والكيف، فأين استلزام المشاهدة للبيعة في رقبة الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه؟!

وأمَّا كون الغيبة عقوبة للناس علي ظلمهم، فإنَّ العقوبة علي تقصير الأعمال لم تقم ضرورة علي أنْ تتشخَّص في حجب الحجَّة عن الناس المعاقبين، بل لم تقم ضرورة علي أنْ يكون ظرف العقوبة في الدنيا، والأصل في العقوبات أنْ تكون في الدار الآخرة. ولولا أنْ يعمَّ الظلم في الدنيا وتنشغل الناس في دفع الظلم عن سلوك طريق التكامل، ولولا الانغماس في بحور المعاصي، لما قُدِّمت

ص: 23

عقوبة إلي الدنيا. فلولا تقديم العقوبات إلي الدنيا بآثار تكوينيَّة أو في حدود أو تعزيرات أو عتق أو كفّارات لما بقي في ربقة المؤمنين إلَّا القليل.

هذا مضافاً إلي أنَّ عقوبة العمل لا تقتضي إلَّا أنْ يُعاقَب المذنب والمسيء دون غيره((1))، وهذا لا يمنع من أنْ يري الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه من لم يُقصِّربالنحو الذي يستحقُّ معه العقوبة المتمثِّلة بالحجب عن رؤية إمام الزمان عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

ومضافاً إلي أنَّ حجب الحجَّة عن الناس عقوبة لهم ليست طريقة لازمة، فقد أتت الأُمَم السالفة بشتّي أنواع التقصيرات وأفحش أصناف المخالفات ولم يُحجَب عنها الحُجَج والأنبياء (عليهما السلام)، فحين ترك قوم موسي (عليه السلام) عبادة الله عزوجل وتحوَّلوا إلي عبادة العجل، هل حُجِبَ عنهم رؤية أنبيائهم؟ وحين قالت النصاري: (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة: 73)، هل استدعي ذلك أنْ يُغيِّب عنهم أوصياءه والأنبياء (عليهما السلام) من بعده؟

وهذا لا ينفي كون الحجب عن الحجَّة نوع عقوبة، فقد تكون إحدي الحِكَم في الغيبة معصية الأُمَّة، لكن الحكمة تقتضي أصل العقوبة ولا تقتضي نوعها أو شخصها إلَّا إذا كانت العقوبات بنحو السُّنَن الكونيَّة التي هي بنحو العلل التامَّة لا المقتضيات.

ولم يثبت في السُّنَن الكونيَّة هذا النوع من العقوبات علي نوع من المخالفات. والسُّنَن الكونيَّة في ذلك قد تكون بنحو العلّيَّة، وقد تكون بنحو الاقتضاء، وكلاهما غير متوفِّر في مثل هذا الأثر، أو علي الأقلّ غير معلوم. وإذا لم

ص: 24


1- ()1() نعم، يُستثني من ذلك ما كان من الآثار التكوينيَّة التي تأتي بعنوان عقوبة، منها ما دل عليه قوله تعالي: (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)، كما يُستثني بعض أحكام الجزاء الوضعيَّة، كالحكم بعبوديَّة الرجال والنساء في المناطق المفتوحة عنوة ولو لم يشتركوا في الحرب، ورقّيَّة أولاد العبيد المولودين بعد الاسترقاق.

يثبت في التاريخ ما يشبه هذه العقوبة، كيف لنا أنْ نقول: إنَّها كانت وفق سُنَّة تكوينيَّة؟!

علي أنَّ ثبوت السُّنَّة التكوينيَّة لا يُكتفي فيه بالإمكان، بل لا بدَّ من الدليل أو التجربة المتكرِّرة التي تُوجِب القطع بثبوتها. ولا دليل علي وجود هذه السُّنَّة، وإنَّما هي كلام فقهاء في مورد جزئي، والذي أظنُّه أنَّهم كانوابصدد دفع توهُّم لزوم محذور من غيبته عجل الله تعالي فرجه والشريفه وهو الحجَّة علي الخلائق. وقد يكون المحذور هو مخالفة ما يقتضيه اللطف أو ما تستدعيه الرحمة أو ترتُّب محذور الظلم، فحاولوا دفعه من خلال وجه معقول في نفسه وإنْ لم يقم عليه دليل.

وأمَّا إجراء سُنَن الأنبياء السابقين (عليهما السلام)، فليس وجهاً يمكن الاستناد إليه ليكون حكمة لعدم الرؤية في الغيبة، وذلك:

أوَّلاً: لأنَّ غيبة الأنبياء السابقين (عليهما السلام) فعل لله تعالي، وهو اختياري، فيحتاج إلي حكمة، إذ لقائل في زمانهم أنْ يقول: لِمَ غاب الخضر مثلاً؟ ولا تُعلَّل الأفعال بحصول نظير لها، وإنَّما تُعلَّل بغاياتها.

وثانياً: لأنَّ حدوث الغيبة لم يكن عامًّا لكلِّ الأنبياء (عليهما السلام) ولا أكثريًّا ليكون ذلك سُنَّة لتجري في الإمام الثاني عشر عجل الله تعالي فرجه والشريفه. فلِمَ لم تجرِ فيه سُنَّة الحضور التي جرت في كلِّ الأنبياء (عليهما السلام) إلَّا ما شذَّ وندر؟

وثالثاً: لأنَّ الوارد في بعض الروايات أنَّ غيبة الأولياء السابقين كانت لأجل نفي الاستبعاد عن غيبة الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمانه لا العكس.

ففي رواية الصيرفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «... وأمَّا العبد الصالح - أعني الخضر (عليه السلام) - فإنَّ الله تبارك وتعالي ما طوَّل عمره لنبوَّة قدَّرها له، ولا لكتاب يُنزِله عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء، ولا لإمامة يلزم عباده الاقتداء بها، ولا لطاعة يفرضها له، بلي إنَّ الله تبارك

ص: 25

وتعالي لمَّا كان في سابق علمه أنْ يُقدِّر من عمر القائم (عليه السلام) في أيّام غيبته ما يُقدِّر، وعَلِمَ ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طوَّل عمر العبد الصالح في غير سبب أوجب ذلك إلَّا لعلَّة الاستدلال به علي عمر القائم (عليه السلام)، وليقطع بذلك حجَّة المعاندين، (لِئَلَّايَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَي اللهِ حُجَّةٌ) )النساء: 165(»((1)).

ورابعاً: لأنَّ إجراء سُنَن الأوَّلين لا تصلح لأنْ تكون حكمة، بل غاية ما تصلح له هو نفي الاستبعاد المستند إلي وجه قد يري صاحبه استحالة امتداد عمر فرد لكلِّ هذه المدَّة من الزمان.

وخامساً: لو فرضنا نهوض سُنَن الأنبياء (عليهما السلام) كحكمة، فهي لا تُشكِّل أكثر من مصلحة في الفعل، ومجرَّد وجود المصلحة غير كافية في الدفع باتِّجاه الفعل إلَّا إذا كانت بمستوي من الأهمّيَّة يمنع من ترك الفعل، ولم توجد مفسدة مزاحمة لتلك المصلحة أو لم يتيسَّر طريق آخر لاستيفاء نفس المصلحة أو مقدار مكافئ لها. خصوصاً إذا كان الطريق الآخر مزاحماً في الوجود للسبيل الأوَّل أو الفعل الأوَّل. ومن أين لنا إحراز ذلك في محلِّ كلامنا؟ خصوصاً وأنَّ عدم إمكان الرؤية لا تدور مصلحته في فرد واحد في زمان واحد، بل مصلحته لكلِّ العباد في كلِّ المجتمعات وعلي مرِّ عصور الغيبة، ممَّا يعني احتمال اختلاف المصالح من حالة لأُخري. ولا حاجة للإطالة وزيادة التوضيح، وأكتفي بفهم القارئ.

وأمَّا ما ذكرته بعض الروايات من أنَّ علَّة غيبته هي إخراج بعض المؤمنين من صلب الكافرين، ففيه:

أوَّلاً: أنَّه لو صلح ذلك حكمةً فإنَّه حكمة لعدم قتل الآباء لا للغيبة

ص: 26


1- ()1() كمال الدِّين (ص 357/ باب 33/ ح 50).

ولا لتأخير إقامة دولة الحقِّ، فضلاً عن أنْ يكون حكمة لمنع رؤية كلِّ أحد لهعجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمن الغيبة. فإنَّ قيام الإمام ونهوضه بالسيف لا ينافي إخراج المؤمنين من صلب الكافرين ولو بعد حين وقرون من السنين.

وثانياً: لو التزمنا أنَّ ظهوره عجل الله تعالي فرجه والشريفه يستلزم نهوضه لإقامة دولة الحقِّ فلابدَّ من الحرب ويخشي أنْ يُقتَل فيها من كتب الله تعالي لبعض ذرّيَّته ولو كانوا أبناء بعيدين أنْ يكونوا مؤمنين، فإنَّ ذلك سيكون مربوطاً بظهوره العامِّ، لا أنْ يظهر لبعض من الخواصِّ علي تباعد من الزمان والمكان.

وأمَّا كون الابتلاء وتمحيص المؤمنين علَّة للغيبة، فإنَّ الابتلاء غاية نشأتنا الدنيويَّة كما يمكن استفادته من قوله تعالي في سورة الكهف: (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَي الْأَرضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً 7) (الكهف: 7)، وغاية ما يقتضيه ذلك أنَّه لا بدَّ من الابتلاء خيراً كان أو شرًّا، (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ 35) (الأنبياء: 35).

أمَّا تعيين نوع الابتلاء فلا وجه له، ومن هنا اختلفت ابتلاءات الأفراد والأُمَم علي مرِّ العصور.

نعم، حين قرَّ القرار الإلهي علي ابتلاء الناس في المقطع الزماني قبل القرن الرابع الهجري إلي أنْ يرث الله الأرض ومن عليها ابتلوا بذلك، ولكن هل يلزم من ذلك أنْ لا تتيسَّر رؤيته لكلِّ أحد وفي كلِّ تلك الأزمنة؟ فهذا ما لا تُعيِّنه حكمة الابتلاء. فالابتلاء باقٍ بنوعه وشخصه لكلِّ الناس إلَّا من شذَّ وندر، وحتَّي من شذَّ فليس شرعة له في كلِّ وقت أنْ يلتقي به عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

2 - انسداد الطريق أمام العقل للوصول إلي الأحكام أو ضرورة الأفعال من خلال الحِكَم، فإنَّ الفعل لا يصدر إلَّا إذا تمَّت الإرادة وتعلَّقت به، والإرادة لا تتعلَّق به إلَّا مع رجحان موافقته للغرض، ورجحان الموافقة للغرض بالنحو

ص: 27

الملزم لا يمكن الوصول إليه إلَّا مع ملاحظة جميع حيثيّات الفعل ومناسبتها للغرض، وهذا أمر لا يتيسَّر للعقل الإحاطة به.

والحاصل: أنَّه لا سبيل إلي نفي إمكان الرؤية استناداً إلي الوجهالعقلي.

السُّنَّة:

وأمَّا السُّنَّة فقد ادُّعي أنَّ المكاتبة التي رواها الحسن بن أحمد المكتَّب تدلُّ علي ذلك. ولننقل نصَّها أوَّلاً.

قال الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كتاب (كمال الدِّين): حدَّثنا أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتَّب، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي تُوفّي فيها الشيخ عليُّ بن محمّد السمري (قدَّس الله سرَّه)، فحضرته قبل وفاته بأيّام، فأخرج إلي الناس توقيعاً نسخته:

«بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليُّ بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستَّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توصِ إلي أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية )التامَّة(، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله عزوجل، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم».

قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمَّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيُّك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه، ومضي 2. فهذا آخر كلام سُمِعَ منه((1)).

ووجه الاستدلال أنَّ الرواية وصفت المدَّعي للمشاهدة بأنَّه مفتر كاذب، فلا يُقبَل مقولة القائل: إنَّه رأي الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه ولو لم يدَّعِ السفارة.

ص: 28


1- ()1() كمال الدِّين (ص 516/ باب 45/ ح 44).

والرواية لا تُجدي في المقام نفعاً ولا تصحُّ مستنداً، لوجوه:

الأوَّل: أنَّ فيها قرينة علي أنَّ المراد هو ادِّعاء الرؤية مع دعوي السفارة، حيث إنَّ قوله عجل الله تعالي فرجه والشريفه: «فمن ادَّعي الرؤية قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر» ورد بعد قوله عجل الله تعالي فرجه والشريفه لعليِّ بن محمّد السمري: «فاجمع أمرك ولا توصِ إلي أحد يقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامَّة».

لكن الإنصاف أنَّ ما ذُكِرَ لا يصلح للقرينيَّة، لإطلاق دعوي المشاهدة، إذ لم تُقيَّد باقتران دعوي السفارة، ولا يوجد ما يصلح لتقييدها بدعوي السفارة.

فإنْ قيل: إنَّ القرينة هي المسبوقيَّة بقوله عجل الله تعالي فرجه والشريفه: «ولا توصِ إلي أحد يقوم مقامك بعد وفاتك»، ثمّ فرَّع بالفاء بعد عدَّة جُمَل وصف مدَّعي المشاهدة بأنَّه مفتر كاذب.

قلنا: توجد قرينة أقوي ظهوراً علي خلاف ذلك، بل وأقرب من تلك في لفظ الرواية، وهي قوله عجل الله تعالي فرجه والشريفه: «فقد وقعت الغيبة التامَّة»، وقوله بعدها مباشرةً: «فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله عزوجل»، والتفريع في (فمن) علي هاتين الجملتين أقرب من التفريع علي الجملة السابقة عليهما.

ولكن قد يقال: إنَّ وصف الغيبة بالتامَّة إضافي بالنسبة إلي الغيبة السابقة، حيث كان بالإمكان الوصول إلي الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه ومعرفة رأيه في الأُمور من خلال السفير، فلا تكون الفقرة قرينة علي إرادة الغيبة التي يكون مدَّعي المشاهدة مفتر كاذب. وكذا فقرة: «فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله عزوجل»، حيث يمكن أن يقال: إنَّ المنفيَّ وهو الظهور لا ينافي أنْ يراه أحد الناس في زمان الغيبة. فتنتفي قرينيَّة الفقرتين علي إرادة نفي مجرَّد المشاهدة. ولكن الأصل في القيود المذكورة في الكلام أنْ لا تكون إضافيَّة ما لم يوجدما يُؤشِّر إلي خلافها.

نعم، بعد سقوط هذا الظهور بما يأتي من الوجوه أو ببعضها يقال: فإذا لم

ص: 29

يكن المراد منها ظاهرها فما هو المعني المراد؟ قيل: يمكن أنْ يكون المراد المشاهدة مع دعوي السفارة، ويمكن أنْ يُجعَل قرينة علي إرادة المشاهدة مع دعوي السفارة أنَّ النيابة الخاصَّة أو السفارة تحتاج إلي تعيين من قِبَل الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه، وهكذا كان في كلِّ السفراء، بالنسبة للنائب الأوَّل عثمان بن سعيد العمري كان الإمام العسكري (عليه السلام) قد جمع شيعته حين أدركته الوفاة وأخبرهم أنَّ ولده الخلف عجل الله تعالي فرجه والشريفه صاحب الأمر، وأنَّ العمري وكيله والسفير بينه وبين شيعته. وحين قرب أجل السفير الأوَّل أعلمه الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه بذلك وأمره بالوصيَّة إلي محمّد بن عثمان الخلّاني ولده ليخلفه في النيابة الخاصَّة. فلمَّا دنا أجله نُعيت إليه نفسه وأمر بأنْ يُوصي إلي الحسين بن روح ليكون النائب الخاصّ الثالث، وهكذا كان حين حانت وفاته.

والملاحَظ أنَّ في كلِّ مرَّة يخرج فيها توقيع الإمام للنائب الفعلي يُبيِّن له النائب اللاحق، ولم يرد في أيٍّ منها تكذيب مدَّعي المشاهدة إلَّا في التوقيع الأخير الذي صدر للسمري، فكانت أهمّيَّة هذا التوقيع وهذه الفقرة فيه تكمن في أنَّه قد سدَّ باب افتراء النيابة الخاصَّة وتضليل عامَّة المؤمنين بذلك.

وهذه الملاحظة وإنْ لم تصل إلي مستوي القرينة التي تصرف ظهور التوقيع الأخير عمَّا هو ظاهر فيه، لكنَّها بضميمة قرائن أُخري قد تُبطِل هذا الظهور أو تُبطِل حجّيَّته، بل قد تُوجِب حجّيَّتها في خصوص دعوي السفارة. وإنْ لم يحصل ذلك فإنَّها تجعل المراد الجدّي من هذه الرواية مجملاً، والروايات المجملة لا تكون حجَّة في أحد احتمالات ماكان مجملاً.

ويكفينا عدم حجّيَّتها ولا نحتاج إلي حجّيَّتها في غير ما ادُّعي ظهورها فيه.

وإنَّما قلنا: لا تصل إلي مستوي القرينيَّة؛ لأنَّه يمكن أنْ يقال: إنَّ الفرق بين ما بعد السفير الرابع وبين بعد من هو قبله أنَّه قبل رحيل السفير الرابع كان للناس منفذ يمكن من خلاله الوقوف علي حال المدَّعين وتمييز المحقِّ من المبطل

ص: 30

منهم، وذلك بواسطة السفير الموجود بالفعل، كما حصل بالنسبة للشلمغاني وأحمد بن هلال العبرتائي.

أمَّا الشلمغاني وهو ابن أبي العزاقر فقد كان مستقيماً ثمّ تغيَّر. ذكر ابن داود أنَّ سبب تغيُّره هو حسده للحسين بن روح((1))، وكذا قال النجاشي فيه((2)).

وأمَّا العبرتائي فقد وُصِفَ في توقيع الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه أنَّه صوفي متصنِّع((3)).

وأمَّا بعد رحيل السفير الرابع فلا يوجد طريق لمعرفة المبطل. وربَّما لو بقينا والرواية لقيل: إنَّه لا سبيل إلي رؤيته وفق ظاهرها، ولكن يأتي بعد ذلك بقيَّة الوجوه في ردِّ الاستدلال بها دون هذا الوجه.

وكيف كان، فهذا الوجه لا يمنع من ظهورها في المعني المزعوم، لكنَّه يُسقِط حجّيَّة هذا الظهور بالقرائن التي أشرنا إليها وستأتي، فلا تنهض لإثبات ما هي ظاهرة فيه.

الثاني: قد يُدَّعي أنَّ الرواية لمَّا ذكرت دعوي المشاهدة قبل ظهور السفياني والصيحة، فهذا يعني أنَّ الحكم لا يجري بعد حصول العلامتين والذي يحصل بعد العلامتين هو ظهوره عجل الله تعالي فرجه والشريفه، فينساق إلي الذهن أنَّ المنفيَّ دعوي ظهوره عجل الله تعالي فرجه والشريفه قبل العلامتين، ولم يدَّعِ أحد من العلماء أو الموثوقين أنَّه قد ظهر

ص: 31


1- ()1() قال (رحمه الله) في رجاله (ص 274/ الرقم 471): (وكان سبب تغييره الحسد لأبي القاسم بن روح حتَّي خرجت فيه توقيعات أوجبت ما عمل به).
2- ()2() قال (رحمه الله) في رجاله (ص 378/ الرقم 1029): (محمّد بن عليٍّ الشلمغاني أبو جعفر المعروف بابن أبي العزاقر، كان متقدِّماً في أصحابنا، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح علي ترك المذهب والدخول في المذاهب الرديئة (الرديَّة)، حتَّي خرجت فيه توقيعات، فأخذه السلطان وقتله وصلبه).
3- ()3() أبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، قال: ورد علي القاسم بن العلاء نسخة ما خرج من لعن ابن هلال، وكان ابتداء ذلك أنْ كتب (عليه السلام) إلي قوّامه بالعراق: «احذروا الصوفي المتصنِّع...» (اختيار معرفة الرجال: ج 2/ ص 816/ ح 1020).

الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه، بل مجرَّد المشاهدة لا بنحو ظهوره بعد طول انتظار لإقامة دولة الحقِّ، فلا أحد منهم ادَّعي انتهاء الغيبة الكبري وانطواء صفحتها.

وقد يُدعَم ذلك من خلال قوله عجل الله تعالي فرجه والشريفه: «فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله عزوجل»، ثمّ بعدها بقليل قال عجل الله تعالي فرجه والشريفه: «وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعي المشاهدة...»، وهذا يجعل احتمال إرادة الظهور من المشاهدة لا يخلو عن قوَّة.

لكن الانصاف أنَّ ذلك لا يُشكِّل قرينة توجب رفع اليد عن ظهور الدليل. نعم، بضميمة بعض القرائن الأُخري قد يُشكِّل المجموع قرينة، إذ قد تصل هذه الوجوه إذا ضُمَّت إلي بعضها إلي مستوي يوجب الاطمئنان بأنَّ الرواية لم يرد منها نفي مجرَّد المشاهدة في زمن الغيبة.

أمَّا هذا التوجيه فلا يخلو من الضعف؛ لأنَّ التحديد بما قبل ظهور السفياني والصيحة هو وقت الغيبة، وفيه يمكن الافتراء والكذب علي الإمامعجل الله تعالي فرجه والشريفه من خلال ادِّعاء مشاهدته، وأمَّا بعد ظهوره فلا مجال لهذه الدعوي ولا محذور بعد كون الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه بين ظهراني الأُمَّة يُري شخصه ويُسمَعحرفه. فلماذا نُوجِّه الرواية لهذا المعني دون ذاك؟

وكيف كان، فهذا الوجه قابل للمناقشة؛ لأنَّ الإشكال مبنيٌّ علي مخالفة هذا الوجه لمفهوم القيد (قبل السفياني والصيحة) وهو غير ثابت لمثله. فيكون القيد كالمقوِّم للموضوع، إذ لا يوجد بدونه. وما المحذور في تحديد ظرف الحكم من خلال تحديد موضوعه دون أن يكون الدليل ناظراً إلي انتفاء الحكم عند انتفاء القيد؟

وعليه فإذا استظهرنا بضميمة هذه الفقرة: «فلا ظهور إلَّا بعد إذن اللهعزوجل» أنَّ المراد هو المشاهدة مع دعوي الظهور فهو، وإلَّا كان من قبيل طرح احتمال ممكن بعد أنْ وُجِدَ ما يمنع من الالتزام بظاهرها حيث يمكن أنْ يقال: إنَّه حين لم

ص: 32

نقبل ظاهرها فهل قُصِدَ منها معني معيَّن أم لا فتكون لغواً؟ ومحذور اللغويَّة ينتفي بمجرَّد وجود احتمال ممكن ثبوتاً أن يكون قد أُريد من اللفظ. وهذا الاحتمال ممكن ولو كان مخالفاً للظاهر.

لكن ذلك لا يعني أبداً الجزم بإرادته من اللفظ، اللَّهُمَّ إلَّا إذا تيقَّنا أنَّه لا يوجد محتمل آخر، بل لا يمكن إرادة معني آخر، فيبقي احتمال إرادة المعني الظاهر وقد نفته القرينة وهذا الاحتمال، فيتعيَّن.

والذي يُهوِّن الخطب أنّا بصدد نفي إرادة المعني الظاهر، ولسنا بصدد ضرورة فهم ما هو المراد بها فعلاً.

الثالث: لو تنزَّلنا عن ظهورها في نفي السفارة والأمر في تكذيب مدَّعيها فهي مجملة، لاتِّصال تلك الفقرة التي هي محلُّ البحث بما يمكن أنْ يكون قرينة علي الخلاف، والقرينة المحتملة إنْ كانت متَّصلة منعت من انعقاد الظهور، فلا يبقي بعد ذلك مجال لتطبيق كبري حجّيَّة الظهور. فلو أنَّ قائلاً قال: (اذهب إلي البحر واستمع إلي حديثه)، وشككت أنَّ المرادبالبحر معناه الحقيقي أو العالِم وعبَّر بالبحر عنه لشبه غزارة علمه بغزارة ماء البحر، فإنَّ مقتضي القواعد هو حمل كلمة (البحر) علي معناها الحقيقي المعهود، إلَّا إذا وردت قرينة علي الخلاف. لكن ظاهر المستمع إلي حديثه هو عدم إرادة البحر بهذا المعني لأنَّه لا يتحدَّث، فلو لم نستظهر من حديثه إرادة الحديث الصادر من البشر، لم نستظهر إرادة التأمُّل في دلالة العظمة فيه، فإنَّ ذلك يمنع من التمسُّك بظهور كلمة البحر علي مستوي الاستعمال لإثبات إرادة معناه الحقيقي. فاحتفاف الكلام بما يحتمل القرينيَّة علي الخلاف يمنع من الظهور في إرادة ما يقتضيه ظهوره الاقتضائي - أي الظهور - لولا محتمل القرينيَّة.

ومع الإجمال تسقط هذه الرواية عن الاعتبار والاحتجاج بها في ذلك القسم منها.

ص: 33

وقد قال الشيخ المجلسي (رحمه الله) في بيان له بعد نقل الخبر: (لعلَّه محمول علي من يدَّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه (عليه السلام) إلي شيعته، علي مثال السفراء)((1)).

لكن الإنصاف أنَّه حين عبَّر ب (محمول) فذلك يُوحي بأنَّ هذا الحمل فيه مخالفة للظاهر، خصوصاً وقد بيَّن المنشأ لهذا الحمل بقوله: (لئلَّا ينافي الأخبار التي مضت وستأتي فيمن رآه (عليه السلام)، والله يعلم). وهذا يعني أنَّ هذا التوجيه لم يكن المستند فيه الفهم من الدليل وإنَّما ألجأنا إليه حقيقة شاخصة متواترة إجمالاً متمثِّلة بحصول المشاهدة له عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمن الغيبة.

بل نفس نقل بعض الأكابر من علمائنا لقاءه عجل الله تعالي فرجه والشريفه مع أنَّ مثل هذا الخبر بمرأي منهم يُقوّي إمكان حصولها، إذ مع الجزم بتقواهم وتحرُّزهم عنمخالفة الأخبار، كيف يخالفون ما يمكن أنْ يكون ظهوراً له في وصف ادِّعاء المشاهدة بمجرَّدها بالكذب والافتراء؟ علي أنَّ ذلك لم يحصل من واحد لنحتمل توهُّمه أو خطأ فهمه للأخبار.

إنَّ ذلك يُفتَرض أنْ يُوجِب عناية في نفس المشاهدة وشيء من التدقيق وإعمال النظر، كما يُوجِب عناية في جانب النقل للمشاهدة.

الرابع: لو سلَّمنا انعقاد ظهور للرواية في كذب المدَّعي للمشاهدة وكونه مفترياً، فإنَّ حجّيَّة الظهور مشروطة بعدم قيام القرينة علي الخلاف، وإذا فرضنا أنَّ القطع قد حصل بإخبار مخبر لخصوصيَّة فيه مثلاً أو لاحتفاف كلامه بقرائن قطعيَّة، فلا يبقي حينها مجال للتعبُّد بظهورها، إذ محلُّ التعبُّد الموارد التي لا يُوجَد فيها قطع بالوفاق أو بالخلاف، وحين يأتينا مثل السيِّد بحر العلوم أو مثل السيِّد أحمد بن طاوس (رحمهما الله) حيث نجزم أنَّه ليس لديه خطل في قول أو زلل في فعل أو

ص: 34


1- ()1() بحار الأنوار (ج 52/ ص 151/ باب 23/ ذيل الحديث 1).

طلب للرئاسة أو حطام الدنيا، لا يبقي أيُّ مجال للتعبُّد بالرواية؛ لأنَّ دلالتها كانت حجَّة من جهة التعبُّد لا من جهة القطع، فأيُّ مجال للتعبُّد بالظهور والقطع علي خلافه؟!

وهذا الكلام جارٍ في الآيات الظاهرة، فمتي قامت القرينة القطعيَّة علي خلاف ظاهر الآية سقط ظهورها عن الحجّيَّة، خذ لذلك مثلاً قوله تعالي: (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمي فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمي وَأَضَلُّ سَبِيلاً 72) (الإسراء: 72)، فظاهر لفظة (أعمي) الأُولي أعمي البصر، ولكن لثبوت القرينة القطعيَّة علي الخلاف لم نلتزم بظهور اللفظة بالمعني الحقيقي وهو عمي البصر، فعمي البصر ليس ملاكاً للعمي وضلال السبيل في الآخرة قطعاً.

وليس اعتمادنا في رفع اليد عن ظهور الكلمة المزبورة في الآية علي مثل قوله تعالي: (فَإِنَّها لا تَعْمَي الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَي الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ 46) (الحجّ: 46).

ليقال: إنَّ لفظة (أعمي) يُراد بها أعمي القلب، بل آية سورة الحجِّ استُعمِلَت كلمة (العمي) فيها في عمي القلب. لكن ذلك لا يصلح قرينةً أو دليلاً علي أنَّ لفظة (العمي) كلَّما وردت في الكتاب أُريد بها عمي القلب. فكما قيل: الاستعمال أعمُّ من الحقيقة، وقد استُعمِلَت الكلمة في معني مجازي، وذلك لا يُسقِط ظهورها - لو كان - في مورد آخر بالمعني الحقيقي عند عدم قيام قرينة علي الخلاف.

الخامس: عدم صحَّة سند الرواية، فقد رواها الشيخ الصدوق (رحمه الله)، قال: حدَّثنا أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتَّب، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي تُوفّي فيها الشيخ عليُّ بن محمّد السمري (قدَّس الله روحه)، فحضرته قبل وفاته بأيّام، فأخرج إلي الناس توقيعاً نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم...» الخبر.

ص: 35

والحسن بن أحمد هذا لم يُنَصّ علي توثيقه. نعم ذكر السيِّد الخوئي 1 في معجمه أنَّ الشيخ الصدوق (رحمه الله) ترحَّم عليه. ومجرَّد الترحُّم ولو من مثل الصدوق (رحمه الله) لا يدلُّ علي الوثاقة، نعم فيه دلالة علي أنَّ مذهبه حقٌّ علي طريقة علمائنا، وإلَّا لقال مثل: (جازاه الله بعمله). ولكن صحَّة المذهب ليست دليلاً علي الوثاقة.

ويمكن أنْ يقال: إنَّه من مشايخ الصدوق (رحمه الله)، وهذا يكفي لإثبات وثاقته. لكن ذلك مردود لأكثر من وجه:

1 - إنَّه ليس من مشايخ الإجازة، وما وقع الكلام في إمكان الاستنادإليه لإثبات الوثاقة كون الرجل من مشايخ الإجازة لا مجرَّد الرواية عنه ولو كان الراوي مثل الصدوق (رحمه الله). ومن هنا لم يلتزم بأنَّ كلَّ من روي عنه الصدوق (رحمه الله) لا بدَّ أن يكون ثقة. نعم كانت في قم مشكلة مع من يُكثِر من النقل عن الضعفاء، لا مجرَّد أنْ يروي ولو لمرَّة واحدة عن ضعيف. وهذا يعني أنَّ مجرَّد نقل الصدوق (رحمه الله) عنه رواية واحدة لا يُشعِر بوثاقته فضلاً عن أنْ يكون دليلاً عليها. وهذا الرجل لم تُوجَد له في الموسوعات الروائيَّة أكثر من روايتين، وقد تكرَّر نقلها، إحداهما الرواية المزبورة، والأُخري نقل فيها الدعاء في زمن الغيبة عن محمّد بن همّام الثقة عن السفير: «اللَّهُمَّ عرِّفني نفسك...»((1)).

فإنْ قيل: إنَّ من ينقل مثل هذا الكنز هل يُشَكُّ في صدقه؟

قلنا: أوَّلاً لو كان ذلك موجباً للوثوق لصار وثوقاً بالنصِّ لا وثوقاً بالراوي، فإنَّ الراوي غير الثقة لا يلتزم أحد بأنَّه لا يروي أيَّ حقٍّ في كلماته، فكيف نلتزم بذلك في من لم تثبت وثاقته وإنْ احتملناها واقعاً؟ نعم لا يمكن

ص: 36


1- ()1() راجع: كمال الدِّين (ص 512/ باب 45/ ح 43).

الاعتماد علي خبره. فإنْ جزمنا بخبر عنه أنَّه لا بدَّ أنْ يكون صادراً من المعصوم (عليه السلام) وثقنا بالخبر فقط ولم تثبت وثاقة الراوي.

وثانياً: من قال: إنَّ هذه الرواية بدلالاتها غير قابلة للمناقشة، أو بتعبير آخر هي كنز؟ ولأجل ذلك تري المجلسي (رحمه الله) احتمل حملها علي دعوي السفارة، وبعض علي دعوي الظهور، ممَّا يعني أنَّ تسليم ظاهرها مشكل. فكيف يُستَدلُّ بمضمونها علي وثاقة راويها؟

وثالثاً: وجود فقرات في رواية ما يُجزَم بكونها صادرة منالمعصوم (عليه السلام) لا يعني بالضرورة قبول كلِّ فقراتها. فإنَّ التوهُّم، بل وتعمُّد الكذب قد لا يحصل في النصِّ كلِّه. وانتفاء ذلك في البعض من فقراتها لا يسلتزم الانتفاء في جميع فقراتها. نعم لو كان النفي مستنداً لوثاقة الراوي فإنَّ الوثاقة هي التي تنفي تعمُّد الكذب في كلِّ الفقرات علي حدٍّ سواء.

2 - لو سلَّمنا أنَّه من مشايخ الإجازة، فإنَّ ذلك غير كافٍ أيضاً في إثبات الوثاقة وإنْ وقع كلام من بعض الأعلام في ذلك وربَّما بني عليها البعض. لكن كبري هذه القاعدة غير تامَّة.

3 - إنَّ الواقع الموضوعي التاريخي يُثبِت أنَّ قدماء علمائنا كالصدوق والمفيد (رحمهما الله) وغيرهم لم يأخذوا علي أنفسهم أنْ لا يحضروا عند الفقهاء والرواة من بقيَّة المذاهب، ولا كان ديدنهم علي الاقتصار في مجالس تحمُّل الحديث علي خصوص الثقاة، بل ثبت حضورهم عند من لم تثبت وثاقته.

السادس: لو سلَّمنا بانعقاد الظهور، بل بكون الرواية علي مستوي النصِّ غير القابل للحمل علي معني آخر ولو بقيام القرينة علي الخلاف، فإنَّ صدور الرواية ليس قطعيًّا، فقد رواها الشيخ الصدوق (رحمه الله) قال: (حدَّثنا أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتَّب، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي تُوفّي فيها الشيخ عليُّ بن محمّد السمري...) الخبر.

ص: 37

وعلي فرض صحَّتها سنداً فإنَّها لا تتحوَّل بذلك إلي قطعيَّة الصدور، فيُقبَل مضمونها تعبُّداً، والتعبُّد بالسند كما هو في الظهور يُقبَل إذا لم تقم القرينة علي خلافه. ولا يُعتَبر في القرينة أنْ تكون قطعيَّة، لكن يُعتَبر أنْ لا تكون تلك القرينة دلاليَّة. فمثل إعراض المشهور عن الرواية أو مخالفة فتواهم لها تُسقِطها عن الحجّيَّة. وكذا وجود رواية مكافئة لها إذا التزمنا بالتساقط حينها. ومثل ذلك مخالفة الكتاب الكريم. وأوضح من ذلك ما لوقامت القرينة القطعيَّة علي خلافها، إذ لو قامت القرينة القطعيَّة علي الخلاف، فالعمل بالرواية مستلزم للمحال في نظر المكلَّف علي كلِّ حالٍ - أي وإنْ كان قطعه في غير محلِّه -؛ لأنَّه يستلزم نفي الحكم الثابت بالقطع علي خلافها. فلا يتعقَّل المكلَّف مع قطعه بالحكم وجود احتمال حكم آخر، إذ يلزم احتمال اجتماع الضدَّين - إذ الأحكام متضادَّة فيما بينها -، واحتمال اجتماع الضدَّين مستحيل كما أنَّ الجزم به مستحيل. فإذا أراد الشارع المقدَّس أنْ يتعبَّد المكلَّف بسند رواية قام القطع علي خلافها، فإنَّ المكلَّف سوف لن يتحرَّك عن قطعه ولن يترك العمل بمقتضاه، فيكون جعل الحجّيَّة حينئذٍ لغواً وبلا فائدة. واللغو قبيح، والمولي تعالي منزَّه عن كلِّ قبيح.

ومع قطعنا بحصول بعض لقاءات مع الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمن الغيبة لا يمكن العمل بمضمون الرواية ولو كانت نصًّا في مدلولها.

السابع: أنَّه لم يثبت وجه للاستحالة ليسوغ لنا أنْ ننفي وبضرس قاطع رؤية الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمن الغيبة. والذي نجزم به ورود رواية قيل: إنَّها دالَّة علي ذلك. ولا نستطيع أنْ نجزم بمؤدّاها إلَّا إذا كانت قطعيَّة في جوانبها الثلاثة: (الصدور، والدلالة، والجهة) كما يُعبِّرون.

أمَّا الصدور فيحصل القطع به من خلال التواتر أو بالاحتفاف بقرائن قطعيَّة علي الصدور، وهما غير متوفِّرين جزماً.

ص: 38

وأمَّا الدلالة فبوجود مفردات في الرواية لا نحتمل معها ولو ضعيفاً إرادة معني آخر، وهو غير متحقَّق، خصوصاً وقد احتملنا إرادة المشاهدة مع دعوي السفارة كما احتملنا إرادة المشاهدة مع ظهوره عجل الله تعالي فرجه والشريفه لا مجرَّد المشاهدة.

وأمَّا الجهة وهي أنْ لا تكون صدرت مزاحاً أو تقيَّةً أو مجرَّد تلفُّظدون إرادة معني منه، فالمزاح لا سبيل في كلامه عجل الله تعالي فرجه والشريفه إليه، خصوصاً والرواية تشير إلي أمر مهمٍّ جدًّا في غاية الحسّاسيَّة وفي وقت شكَّل تحوُّلاً في مسيرة أتباع المذهب الحقِّ. وأمَّا عدم إرادة معني فكذلك، خصوصاً في المكاتبات، مضافاً إلي ما تقدَّم من أهمّيَّة المطلب وحسّاسيَّة الوقت. أمَّا التقيَّة فهي خلاف الظاهر، ولكنَّنا نحتمل أنَّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه يتحدَّث بطريقة موضوعها يشبه التقيَّة من حيث اقتضاء مصلحة مهمَّة أنْ ينفي بضرس قاطع صحَّة مدَّعي المشاهدة، ليكون أوقع في النفوس كي تجتنب أصحاب مثل هذه الدعاوي، وينقطع الأمل بلقائه عجل الله تعالي فرجه والشريفه في غيبته، فيضطرُّوا إلي الاعتماد علي الموروث في الفهم وعلي حسن التدبير في المسيرة الحياتيَّة وتطبيقات الأحكام، ولو كان عندهم أيُّ أمل بلقاء الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه فإنَّ ذلك سيمنعهم من الإقدام علي اتِّخاذ القرار، إذ قراراتنا تعتمد علي استظهارات عادةً، والاستظهارات ظنّيَّة والأخذ من الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه قطعي. ولمَّا كان اتِّباع الظنِّ محتمل الوقوع في الخطأ، فإنَّ الإنسان قد لا يقدم عليه مع توفُّر بديل مأمون لا نحتمل فيه الخطأ. وهذا يعني أنَّه مع احتمال إيصال مسألتك للإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه فإنَّك لا تقدم علي سلوك سبيل ظنّي. نعم إذا جزمت بسدِّ طريق تحصيل العلم بالسلوك أو القرار المطابق للمصلحة، فإنَّك ستضطرُّ إلي العمل ببعض الظنون في بعض الموارد.

والحقُّ أنَّ احتمال التقيَّة منفيٌّ هنا، فأيُّ خوف من الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه وهو غائب أنْ يُخبِر بوقوع الغيبة؟

ص: 39

وأمَّا الصدور، فقد تقدَّم أنَّه ليس موثوقاً فضلاً عن أنْ يكون قطعيًّا.

وكيف كان، فإنَّ عدم قطعيَّة جهة واحدة من الجهات الثلاث في الرواية (الصدور، والدلالة، والجهة) يمنع من أنْ تكون قطعيَّة، فكيفوكلُّ الجهات أو جهتان فيها غير قطعيَّة؟!

وإذا لم تكن الرواية قطعيَّة كيف لنا أنْ نقطع بمضمونها ونجزم أمام الملأ أنَّ كلَّ من ادَّعي الرؤية فهو كاذب؟ وقد تقدَّم أنَّه لا توجد دلالة خارج الرواية علي الاستحالة. فلا الرواية ناهضة لإثبات الاستحالة، ولا يوجد دالٌّ آخر علي ذلك بنحو البتِّ والجزم. فأنّي لنا الالتزام بكذب وافتراء مدَّعي المشاهدة؟!

الثامن: أنَّ كلَّ ما تقدَّم لوحظ فيه إمكان الاستناد إلي الرواية إذا توفَّرت فيها شرائط الحجّيَّة، وتبيَّن أنَّها غير متوفِّرة علي شرائط الحجّيَّة.

وهنا نقول: علي فرض توفُّر شرائط الحجّيَّة، فإنَّها لا تثبت في مثل محلِّ الكلام.

لأنَّ مجال التعبُّد بالظنون الخاصَّة هو الفروع أي الأحكام الفرعيَّة دون الاعتقاد.

صحيح أنَّ بعض الفقهاء فرَّقوا بين تفاصيل الاعتقاد وأُصوله، فقبلوا التعبُّد في التفاصيل دون الأُصول، إلَّا أنَّ ذلك لا معني له. والسرُّ أنَّ المطلوب في الاعتقاد ذات الواقع لا الواقع المحرز ولو بدليل ظنّي حجَّة. والمطلوب عقد القلب علي ما انكشف أنَّه واقع بالجزم واليقين. وقيام الحجَّة التعبُّدية علي شيء لا يجعله واقعاً بعد أنْ لم يكن من الواقع. نعم لو كان المطلوب عقد القلب علي الصورة التي رسم الدليل التعبُّدي بعض ملامحها مثلاً لأمكن التعبُّد بذلك الدليل.

لكن الاعتقاد يُراد به أنْ يكون متعلَّقه الواقع الثابت بالجزم واليقين. والخبر غير القطعي والدلالة غير النصّيَّة (غير الجزميَّة) والتي لم تحتف بها قرائن قطعيَّة لا يفيد اليقين بما حكي عنه. والجزم الحاصل إنَّما هو بالحاكي لا بالمحكي.

ص: 40

مضافاً إلي أنَّ المسالك المعروفة في مسألة الحجّيَّة وحقيقتها ثلاثة:

1 - وهو ما ذهب إليه صاحب الكفاية حيث بني علي أنَّ المجعول في أدلَّة الحجّيَّة عبارة عن المنجِّزيَّة والمعذِّريَّة، وهما غير معقولين في الموارد التي لا يُوجَد فيها ما يقبل التنجيز والتعذير عنه، إذ لا حكم فيها ليكون محلّاً للتنجيز والتعذير.

2 - مسلك جعل الحكم المماثل، والذي يعني أنَّ الشارع المقدَّس نتيجةً لقيام الأمارة الحجَّة يحكم بحكم مطابق لمؤدّاها، فإذا أخبر الثقة مثلاً بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فإنَّ الشارع - طبق هذا المسلك - سيحكم بوجوب ذلك الدعاء حتَّي وإنْ لم يكن ما حكاه الثقة ثابتاً في الواقع.

وهذا المسلك علي وضوح بطلانه في الفروع، إذ فضلاً عن عدم الدليل علي مثل هذا الجعل في موارد الحُجَج، يلزم منه أنْ تكون الأحكام الظاهريَّة غير ثابتة ومتغيِّرة بحسب الأفراد من جهة اختلاف مداليل الأمارات أو اختلاف فهمها. لا يمكن الالتزام به في الاعتقاد، إذ لا تُتعقَّل الأحكام لتأتي الحُجَج فتحكي عنها فيحكم الشارع بحكم طبق مؤدّاها. وهذا المحذور الأخير يمكن التخلُّص منه، ولكن يبقي هذا الوجه بلا دليل يدلُّ عليه، بل الأصل ينفيه.

3 - مسلك جعل العلميَّة والذي بني عليه النائيني (رحمه الله)، حيث إنَّه واجه مشكلة من جهة أنَّ الحكم في مورد الأمارات الظنّيَّة لمَّا لم يكن معلوماً، فموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان تامٌّ وهو عدم البيان - أي عدم العلم -، إذ الدليل الظنّي ولو كان حجَّة لا يستلزم العلم الوجداني. وهذا يعني عدم توفُّر السبيل لإبطال حكم العقل، والأحكام العقليَّة كما هو معروف غير قابلة للتخصيص، وحينئذٍ يبطل دليل الحجّيَّة؛ لأنَّه ينافي حكم العقل. ومن هنا ذهب النائيني (رحمه الله) إلي أنَّ الشارع حين جعل الحجّيَّة سلكمسلك رفع موضوع حكم العقل، وبارتفاع الموضوع يرتفع الحكم وينتفي. أمَّا كيف رفع الموضوع مع أنَّه متحقِّق وجداناً إذ إنَّنا لا نعلم بالحكم؟ يقول الميرزا: إنَّه يُرفَع تعبُّداً من

ص: 41

خلال تنزيل الظنِّ الذي هو مورد الأمارة أو الخبر منزلة القطع والعلم. فالأمارة الحجَّة تورث العلم التعبُّدي المجعول من الشارع بدليل الحجّيَّة، فيتحقَّق بذلك البيان، لكنَّه بيان تعبُّدي لا حقيقي، فينتفي موضوع الحكم العقلي وهو عدم البيان، فتترتَّب آثار العلم الحقيقي وهي المنجِّزيَّة والمعذِّريَّة.

لكن جعل العلم لا يُستفاد من أدلَّة الحجّيَّة، ولا حاجة إلي تقديره ما دام بالإمكان قبول أدلَّة الحجّيَّة دون تقدير جعل العلم؛ لأنَّ ما بني النائيني (رحمه الله) علي أنَّه محذور ليس بمحذور، إذ إنَّ الحكم الواقعي وإن لم يكن عليه بيان لكن الحكم الظاهري قد بُيِّن، فموضوع البراءة العقليَّة أو قاعدة قبح العقاب بلا بيان مرتفع، فلا مجال للحكم العقلي. هذا مضافاً إلي التشكيك في حكم العقل هذا، إذ قيل: إنَّ حكم العقل هنا هو الاحتياط ما لم يُرخِّص الشارع بترك التحفُّظ تجاه التكليف المشكوك.

إذن لا محذور في التزام أنَّ المجعول هو المنجِّزيَّة والمعذِّريَّة. ويعود نفس كلامنا السابق وهو عدم وجود حكم في الاعتقاد لنتعقَّل تنجُّزه علينا. ثمّ إنَّ جعل العلم كانت الغاية منه إثبات المنجِّزيَّة والمعذِّريَّة لا شيء آخر.

ويمكن القول: إنَّ ما يُعيِّن أنَّ المجعول هو المنجِّزيَّة والمعذِّريَّة في الظنون الخاصَّة التي قام الدليل علي حجّيَّتها هو أنَّ الدليل الأساسي في الاستناد إليه لإثبات حجّيَّة الظهور وحجّيَّة الخبر هو السيرة العقلائيَّة، وهذا يعني أنَّ أصل الحجّيَّة شيء بني عليه العقلاء قبل الشارع المقدَّس،ثمّ حين جاء الشارع لم يردع عنها، ممَّا يعني أنَّه أمضاها وقَبِلَ التعاطي مع مراداته في مقام تشخيصها وفهمها بواسطة الظهور وأخبار الثقاة مثلاً.

والعقلاء لا يعرفون جعل الحكم المماثل، كما لا يلتفتون إلي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ليقال: إنَّ المنجِّزيَّة لا تُعقَل في مورد عدم العلم.

ص: 42

فالذي يُجعَل في التباني العقلائي هو المنجِّزيَّة والمعذِّريَّة دون الحكم المماثل أو العلم التعبُّدي.

بل حتَّي لو استندنا إلي الأدلَّة الشرعيَّة المثبتة لحجّيَّة الخبر وحجّيَّة الظهور مثلاً، كآية النبأ والسؤال عن أهل الذكر وغيرهما من الآيات، بل والروايات، ولم نلتفت إلي السيرة العقلائيَّة، فإنَّ من البعيد بمكان أنْ يكون المجعول فيها غير ما هو المعروف بين العقلاء، والذي هو عبارة عن المنجِّزيَّة والمعذِّريَّة.

وكيف كان، فالمتعيَّن هو أنَّ المجعول في أدلَّة الحجّيَّة هو المنجِّزيَّة والمعذِّريَّة دون ما سواهما. وهما لا يُتعقَّلان إلَّا في مورد يُتعقَّل فيه التنجيز والتعذير، وهذا مختصٌّ بالموارد التي فيها أحكام شرعية، والمعتقَد ليس فيه حكم شرعي.

فكيف نبني معتقَدنا علي خبر ضعيف في وقتٍ لا أثر فيه للخبر الصحيح؟

والحاصل: أنَّه لا يسوغ الاعتماد علي الخبر المذكور لنفي لقاء أحد بالإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمان الغيبة ما دام لم ينهض دليل علي الاستحالة. والمفروض عدم وجود هذا الدليل.

ولا يفوتنا هنا أنَّ الفقهاء لم يزدروا مقالة أحد من أكابر الأولياء وأعاظم الفقهاء قال بأنَّه وُفِّقَ للقاء الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمان الغيبة، وهذه الروايةحاضرة أمامهم، بل من نقل هذه الرواية كصاحب البحار لم يعمل بمضمونها وحملها علي معني آخر ونقل مجموعة من الوقائع التي حدث فيها لقاءات معه عجل الله تعالي فرجه والشريفه. ممَّا يعني أنَّه لم يفهم وجود أيِّ مجالٍ لردِّ مثل هذه الدعاوي أو لإثبات عدمها.

عندما يصل الفقيه في بحثه عن حكم شرعي إلي دلالة تامَّة علي ذلك الحكم ولا يري دليلاً معارضاً له ينظر فإنْ كانت فتوي المشهور علي خلاف ما وصل إليه قال: ليس الإفتاء وفق الدليل إلَّا جرأةً علي مخالفة المشهور، وحذراً من تلك الجرأة يتحوَّل إلي الاحتياط في الفتوي. مع أنَّ المشهور قد يكونون

ص: 43

نظروا إلي نفس ما نظر إليه من الأدلَّة، لكنَّهم فهموا منها شيئاً آخر غير ما فهمه هو. ومع أنَّ فهمهم لا يعني بالضرورة إدراك الواقع في المسألة، فالمسألة تبقي حدسيَّة. وحتَّي مثل الشيخ الأنصاري (رحمه الله) علي تضلُّعه في صنعة الإفتاء لا يخالف المشهور ولو تمَّ الدليل علي خلاف رأيهم.

ونحن نعرف أنَّ من ذكر منهم أنَّه تشرَّف برؤية الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه يستند إلي الحسِّ، ومنهم من لا يُخطئ في معرفة شخصه ولا يتطرَّق فيه احتمال الكذب، ومع ذلك نجزم بالتوهُّم، وأيُّ مستند لنا؟ هل هو ما تقدَّم من الرواية التي ذكرنا أنَّ في الاستدلال بها جملة من الإشكالات والمؤاخذات؟

لا شكَّ أنَّ ذلك غير لائق، خصوصاً والذين قالوا: إنَّهم قد تشرَّفوا بخدمة الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه ولو لم يُعرَف دليلهم فيهم الأعاظم والمقدَّسون كالسيِّد مهدي بحر العلوم والسيِّد ابن طاوس (رحمهما الله)، والقائمة تطول.

إنَّ إخباراً واحداً من أمثال هؤلاء يوصل إلي الجزم، فكيف ننفي أصل الرؤية عن الجميع؟نحن لا نُنكِر أنَّ سوق الدعاوي كثيرة البضاعة، والدنيا مليئة بالحمقي الذين تَروج عندهم هذه السلعة، خصوصاً والنفوس تواقَّة لاختزال طريق الاستكمال ونيل الحظوة عند الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه بمتابعة مدَّعٍ وتصديق مفترٍ يريد أنْ يستأكل الدنيا بدينه، فينال دنياه من خلال بيع غيره لدينهم. (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) (البقرة: 102).

وعلي هذا فنحن لا نقبل دعوي كلِّ مدَّعٍ، لكنَّنا في نفس الوقت لا نري أنَّ باب المشاهدة موصَد أمام كلِّ الناس بنحو يُجزَم بكذب كلِّ من يقول: إنّي قد منَّ الله عليَّ وشرَّفني بالنظر إلي وجهه عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

ثمّ إنَّه قد يقال بأنَّ المشاهدة لا يقتصر دليل عدمها علي الرواية السابقة

ص: 44

التي رواها الصدوق (رضوان الله عليه)، إذ هناك الكثير من الروايات التي يمكن أنْ يُستَظهر منها ذلك، ومنها:

1 - كمال الدِّين: حدَّثنا أبي 2، قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن محمّد ابن أحمد العلوي، عن أبي هاشم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن العسكري (عليه السلام) يقول: «الخلف من بعدي الحسن ابني، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟»، قلت: ولِمَ جعلني الله فداك؟ قال: «لأنَّكم لا ترون شخصه، ولا يحلُّ لكم ذكره باسمه»، قلت: فكيف نذكره؟ فقال: «قولوا: الحجَّة من آل محمّد (صلوات الله عليه وسلامه)»((1)).

والرواية إنْ لم تكن صحيحة فهي حسنة لمحمّد بن أحمد العلوي، وقد قال عنه النجاشي: إنَّه من شيوخ أصحابنا. وقد ذُكِرَت أمارات في توثيقه، منها: أنَّه يروي عنه الأجلَّة. ومنها: عدم استثناء ابن الوليد رواياته عن روايات محمّد بن أحمد بن يحيي، وهذا يدلُّ علي توثيق ابن الوليد له.ومنها: أنَّ العلَّامة صحَّح رواية وقع محمّد بن أحمد العلوي في طريقها، ومنها: أنَّ الصدوق قد وثَّقه في (كمال الدِّين) حيث قال: حدَّثنا شريف الدِّين أبو عليٍّ (أبو محمّد) الصدوق...((2))، لكن شيئاً من هذه الأمارات لم يسلم من الإشكال. لكن حسنه لا ريب فيه. وعليه فالرواية إنْ لم تكن صحيحة فهي حسنة.

2 - كمال الدِّين: حدَّثنا أبي ومحمّد بن الحسن (رضي الله عنهما)، قالا: حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن جعفر بن محمّد بن مالك، عن عليِّ بن الحسن بن فضّال، عن الريّان ابن الصلت، قال: سُئِلَ الرضا (عليه السلام) عن القائم (عليه السلام)، فقال: «لا يُري جسمه، ولا يُسمّي باسمه»((3)).

ص: 45


1- ()1() كمال الدِّين (ص 648/ باب 56/ ح 4).
2- ()1() راجع: معجم رجال الحديث (ج 16/ ص 59 - 61/ الرقم 10197).
3- ()2() كمال الدِّين (ص 648/ باب 56/ ح 2).

ولا مشكلة في سند الرواية إلَّا في جعفر بن محمّد بن مالك الذي ضعَّفه النجاشي، وتوقَّف فيه العلَّامة، ولكن وثَّقه الشيخ الطوسي، ويظهر أنَّه اطَّلع علي ضعف وجه تضعيف النجاشي له؛ لأنَّه قال: إنَّه ثقة، ويُضعِّفه قوم((1)). فتكون الرواية موثَّقة لوجود ابن فضّال فيها.

3 - الغيبة للطوسي: جعفر بن محمّد بن مالك الكوفي، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصمّ، عن عبد الرحمن بن سيابة، عن عمران بن ميثم، عن عباية بن ربعي الأسدي، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «)كيف( أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدي ولا علم يُري يبرأ بعضكم من بعض؟»((2)).ونظائر هذه الروايات كثيرة.

لكن التأمُّل يُعطي أنَّها غير ناهضة لإثبات ذلك، إذ يكفي في صدق أنَّه عجل الله تعالي فرجه والشريفه لا يُري شخصه أو جسمه أو أنَّه لا يُري عدم تمكُّن السواد الأعظم من الناس رؤيته، بل من قيل: إنَّه رآه نادر جدًّا، فلا تُعتَبر هذه الروايات من أدلَّة نفي المشاهدة.

هذا مضافاً إلي ما ذكرناه في ردِّ الاستدلال بالرواية السابقة من أنَّها علي فرض ظهورها فليست حجَّة في مثل المقام؛ لأنَّها غير قطعيَّة لا في سندها ولا في دلالتها. نعم ربَّما يكون مضمونها مقطوع الصدور من جهة التواتر الذي إنْ لم يكن معنويًّا فهو إجمالي، ولكن تبقي مشكلة الدلالة. ولو تمَّت الدلالة فهي غير قطعيَّة، فلا تصلح للاستدلال في محلِّ كلامنا.

ولقائل أنْ يقول: إنَّ ما نُقِلَ من مفردات اللقاء وإنْ نُسِبَت إلي الأكابر إلَّا

ص: 46


1- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 5/ ص 87 - 90/ الرقم 2288).
2- ()4() الغيبة للطوسي (ص 341/ ح 291).

أنَّ أحداً منهم لم يروها مباشرةً، وإنَّما هي نقولات في صفحات كُتُب لا تتعدّي أخبار آحاد مسندة أو مرسَلة، وهذا يجعلنا نشكُّ فيها.

قلنا: إنَّ ذلك لو صحَّ فإنَّه لا يمنع من حصول تواتر إجمالي أنَّ واحدة من هذه النقولات حاصلة قطعاً.

ولو لم تصل إلي التواتر الإجمالي فهي محتملة الحصول. والخبر الضعيف لا يصحُّ الاعتماد عليه، ولكن لا يُقطَع بعدم صحَّته. فإذا نظرنا إلي أنَّ البحث ليس في مسألة فرعيَّة يُراد استنباط حكمها كان لا بدَّ من القطع ليُبني عليها، ومع وجود الاحتمال المخالف كما هو المفروض كحدٍّ أدني في مسألتنا فلا حجّيَّة لما قابل هذا الاحتمال.

نعم لو تمَّ سند هذه الرواية - وهو لم يتمّ -، وسلمت دلالتها بمستويالظهور - كما هو ليس ببعيد -، وقلنا بإمكان التعبُّد في مثل هذه المسائل، أمكن الاستناد إليها لنفي الرؤية في زمان الغيبة، والحال أنَّه لم يتمّ سند الرواية عندنا، ولم نلتزم بالتعبُّد خارج دائرة الفروع.

ومع فرض توفُّر هذه الشروط الثلاثة للعمل بمؤدّاها لا تنفعها إلَّا في حدود عدم ترتيب الأثر علي مثل هذه الدعاوي، ولا تُسوِّغ لنا أنْ نجزم بكذب كلِّ من ادَّعي المشاهدة.

فالتعبُّد في مورد يجعل الاحتمال المقابل ملغي تعبُّداً، وهو ما يعني عدم ترتيب الأثر علي وجوده، أي في مقام العمل وترتيب الأثر نتعامل كأنَّه غير موجود في الواقع. ولا يُسوِّغ ذلك الالتزام بعدم وجوده واقعاً، فليس ذلك ضمن مساحة التعبُّد، إذ الاحتمال انكشاف، والانكشافات خاضعة لأسبابها التكوينيَّة غير قابلة للانفكاك عنها، فلا يمكن للشارع أنْ يُكلِّفنا بذلك؛ لأنَّه يلزم التكليف بغير المقدور.

ص: 47

وهذا هو الذي أردنا الوصول إليه من خلال هذه السطور، فالبتُّ والجزم بعدم الرؤية في زمن الغيبة لا يمكن نفيه، لعدم قابليَّة ما يُذكَر من وجه لإثباته.

سدَّدنا الله بالقول الثابت في الدنيا والآخرة، إنَّه خير مسؤول.

ص: 48

(2)إثبات ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه والشريفه

اشارة

ص: 49

ص: 50

مثَّلت الإمامة محطَّة الابتلاء، وباب الاصطفاء، من دخله نجا، ومن أعرض عنه غوي. وشكَّلت غربالاً لإيمان المؤمنين. فكثر الكلام وزلَّت الأقدام في هذه الحيثيَّة التي عندما رآها إبراهيم (عليه السلام) علي علوِّ شأنه وقرب منزلته بَهَرَته فسألها لذرّيَّته: (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 124) (البقرة: 124).

وصار الناس بين منكرٍ لها وبين مطبِّقٍ لها علي غير أهلها.

وبين قِلَّةٍ شَمَلَتْها رحمة من ربِّها فآمنت بالهداة والذادة الكماة، عملوا بوصيَّة نبيِّهم وأذعنوا بإمامة سادتهم.

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ 13) (سبأ: 13).

(وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ 70) (المؤمنون: 70).

إنَّ عظم منزلة الإمامة جعلها نقطة افتراق داخل الجسد الإسلامي، فمن لم تُدركه لفتة الرحمة من ربِّه أبعده حسده أو قعد به جهله أو أسره هواه.

وكانت حيثيّات الإمامة مثاراً للبحث والتدقيق، فبعضٌ حظُّه الرفض، وآخر كفله التصديق.

ولطالما كان من سمة الفكر والمعتقد الجذب والدفع، وبمرور الليالي والأيّام تجلّي في الإمامة ذلك في الأنام.

فكم من ناصب أدار التوفيق دفَّة مركبه لبحر الولاء، وكم من موالٍ عصف به كيد الشيطان في مستنقع العداء. والإيمان منه ثابت ومنهمستودع. ومن عثر فيه علي مرتع لم يضمن دوام المهجع، فغربال الابتلاء ما فتئ يعمل ووابل الامتحان ما انفكَّ يهطل. يتجلّي في أرضٍ حياةً ورحمةً، وينزل في أُخري

ص: 51

بلاءً ونقمةً. شأنٌ لهذه الحياة لا يتبدَّل وقانونٌ لها لا يتعطَّل. والنار تُحرق الخشب وتُنقّي الذهب.

ومن لم يُسلم عنانه للشيطان في أصل الإسلام كَمَنَ له اللعين في معرفة الإمام. وقبول القضايا في تناسب عكسي مع مقدار غرابتها. ومن أغرب القضايا أنْ يعيش إنسان لقرون متمادية، وأغرب من ذلك أنْ لا يعرفه أحد علي مرِّ العصور وتوالي الدهور، ومن هنا خُصِّت مسألة الإمام الثاني عشر عجل الله تعالي فرجه والشريفه بالكثير من الاهتمام، وصار الحديث فيها مورداً للنقض والإبرام. فأنكر قومٌ ولادته وبني آخرون علي وفاته، وأعلمنا آباؤه الكرام (عليهما السلام) أنَّه سيقال فيه: «هلك، في أيِّ وادٍ سلك؟»((1)).

وما زالت مسألة حياة الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه والشريفه كلَّ هذه المدَّة مورداً للأخذ والردِّ والنقض والإبرام، فبين منكر لها لا يستند إلَّا إلي وجوه الاستبعاد، والاستناد إلي مثلها في البحث عن الحقيقة بعيد عن السداد، وبين مذعن بها انقادت نفسه لإخبارات الغيب فابتعدت بذلك عن ساحة الريب، وبين من هم في ريبهم يتردَّدون، مذبذبين لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء.

وقد تحيَّر الأعيان في إيصال هذه الموضوعة إلي الناس بسبيل يدفع عن نفوسهم الأوهام ويدفعها إلي التسليم بولادة الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه وبقائه حيًّا كلَّ هذه السنين، وقد سلكوا ضمن ما سلكوا سبيل الحسِّ الذي نقل لهم حالات مشاهدة ومفردات مشابهة في طول العمر وفي الغيبة، فنقلوا قَصصاً عن المعمِّرين لم تكن مسلَّمة في كُتُب المؤرِّخين، ودوَّنوا حكايات عن لقاءاتبه عجل الله تعالي فرجه والشريفه أكثرها لا تتوفَّر علي شرائط الاحتجاج ولا تُجدي في ردع أهل اللجاج، وإنَّ إيراد تلك المفردات في كُتُب القوم لشاهد علي شدَّة الضغط الذي تعيشه نفوسهم لإقناع

ص: 52


1- ()1() الغيبة للنعماني (ص 158/ ب 10/ فصل 1/ ح 18).

الناس بما اعتقدوا به من إخبارات بالغيب من جهة العصمة التي لا تنطق عن الهوي.

وقد شكَّك البعض في تواتر الأخبار - علي بعض المباني - في ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه. ونظراً لأهمّيَّة المسألة ومحوريَّتها في معتقدنا رأيت أنْ أتعرَّض إلي الأدلَّة التي يمكن أنْ تكون دالَّة علي ولادته، ولم أقتصر في الاستعراض علي ما يدلُّ علي ذلك مطابقةً، وإنَّما طفت في طوائف الأخبار التي تدلُّ عليه التزاماً. ولم أُرْخِ العنان لقلم البحث لاستيعاب كلِّ ما يمكن أنْ ينفع في ذلك من آحاد الأخبار، بل تعرَّضت لطوائف وانتقيت بعضاً من كلٍّ منها، مع إشارة إلي وجه الدلالة. ولو لم يكن في هذه الطوائف إلَّا خصوص ما سقته من الروايات لكان فيها ما يزيد علي الكفاية.

دعوي خفاء ذكره عجل الله تعالي فرجه والشريفه في كلمات الأوائل:

لقد أُثيرت مسألة ترك التعرُّض لإمامة الإمام الثاني عشر عجل الله تعالي فرجه والشريفه بعد وفاة والده (عليه السلام) لمدَّة من الزمن في كُتُب علمائنا المتقدِّمين ولم يتحدَّثوا عن ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه، فكان ذلك مثاراً للتشكيك في وجوده، بل وربَّما التشكيك في دواعي الحديث عنه بعد ذلك. وكان المناسب البحث عن سبب عدم الحديث في أوائل الغيبة لا البحث عن الحديث اللاحق. ولا نري تأييداً ولا شهادةً فضلاً عن دلالة في عدم الحديث في أوائل الغيبة علي عدم وجوده عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

وهل يُخِلُّ في حقيقة أنْ لا تعرفها عامَّة الناس في زمانٍ؟ حين تطبق الدنيا علي عبادة الأصنام وتنكر وجود الباري تبارك وتعالي، فهل أوجبذلك خللاً في حقيقة الوجود المقدَّس؟

وحين تتَّفق الناس علي أنَّ عيسي (عليه السلام) ابنٌ لله تعالي، فهل خدش ذلك في واقع كونه عبداً لله اصطفاه لحمل أعباء النبوَّة؟

ص: 53

وحين اتَّفقت الناس علي محاربة النبيِّ (صلي الله عليه وآله) لمدَّة من الزمن، أكان ذلك موجباً للتشكيك بنبوَّته (صلي الله عليه وآله) بعد أنْ قام الدليل القطعي عليها؟

لقد جهلت أجيال حقيقة إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل لم يعرفوا أصلها ولم نرَ في ذلك مؤشِّراً موجباً للتردُّد في قبولها. وهكذا باقي الأئمَّة (عليهما السلام)، بل والأنبياء (عليهما السلام).

فنوح (عليه السلام) من أُولي العزم من الرُّسُل جهل الناس قدره وأنكروا منه أمره لألف سنة إلَّا خمسين عاماً، فما ضرَّ جهل العالمين بحقّانيَّة دعوة الأولياء والصالحين.

إنَّ القرآن الكريم - كما ورد في الروايات((1)) - لا تُفني عجائبه ولا تنقضي غرائبه، وما زال مغدقاً بالعطاء علي من ورد باب التأمُّل في آياته. والعطاء الجديد ممَّا جادت به السور والآيات لم يكن معلوماً للسابقين، ولم تمنعنا حداثة المعني المستفاد من قبوله، ولا أوقفنا عدم تمكُّن الآخرين من استفادته.

بل في بعض الروايات ما يُصرِّح بأنَّ بعض آياته وسوره لم تنزل ليفهمها أهل زمان النزول ومن كان يحيي في زمن الرسول (صلي الله عليه وآله).

ففي الخبر الصحيح الذي رواه الكليني عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَي، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) عَنِ التَّوْحِيدِ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عزوجلعَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ مُتَعَمِّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَي: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وَالْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْحَدِيدِ إِلَي قَوْلِهِ: (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ 6) )الحديد: 6(، فَمَنْ رَامَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ»((2)).

لقد خفيت إمامة بعض الأئمَّة (عليهما السلام) لمدَّة من الزمن، ولم يضرّ ذلك في حقّانيَّة إمامتهم، كالإمام الرضا (عليه السلام).

ص: 54


1- ()1() نهج البلاغة (ص 61/ ح 18).
2- ()1() الكافي (ج 1/ ص 91/ باب النسبة/ ح 3).

وكلُّ هذه المفردات المتفرِّقة لم تُعدَم المعتقِد بها في زمانها، وولادة الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه كسواها من هذه القضايا في زمانها حيث لم تُعدَم المتحدِّث بها والناقل لها فضلاً عن المعتقدين من خواصِّ الإمام العسكري (عليه السلام).

ونحن إذ ننفي التأييد لعدم تعرُّض الأوائل لذكره عجل الله تعالي فرجه والشريفه علي عدم ولادته فضلاً عن الشهادة أو الدلالة، نجزم بالخلاف، لوجود الأدلَّة التي هي أكثر بكثير من الحدِّ الأدني للتواتر الموجب للجزم والقطع بولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه وتشرُّف الأرض بوجوده المبارك، وما قيمة الاستبعاد أمام الدلالة القطعيَّة لو كان في البين مجال للاستبعاد؟ إذ بعد تصوّر الحكمة الداعية إلي الإخفاء وقبولها ينتفي أيُّ استبعاد، بل يتَّضح أنَّ المناسب هو التكتُّم من قِبَل الأئمَّة (عليهما السلام) وأصحابهم القريبين في زمن الغيبة.

علي أنَّنا نُشكِّك في أنَّ الأوائل من علمائنا لم يتعرَّضوا لذلك، فما أكثر الروايات في الكافي عنه عجل الله تعالي فرجه والشريفه والتي تناولت جوانب متعدِّدة من القضيَّة المهدويَّة، وقد كُتِبَ الكافي في زمن الغيبة. وأمَّا الصدوق (رحمه الله) فعطاؤه في الكتابة والتأليف كان جلُّه بعد انتهاء الغيبة الصغري، وما أكثر ما جمعه الصدوق (رحمه الله) في ذلك، وكتابه كمال الدِّين وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) والخصال وغيرها مصدر أساسي للباحث في القضيَّة المهدويَّة.

خفاء ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه سبب عدم معرفة عامَّة الناس به:

حين تعلَّقت إرادة الله تعالي بأنْ يكون للناس إمام هو الثاني عشر عجل الله تعالي فرجه والشريفه بترتيب الأئمَّة (عليهما السلام)، وأنْ يكون هذا الإمام حاملاً للواء النصر وناشراً لراية الهدي، واقتضت الحكمة أنْ يخرج شيء من البيان ومقدار من التنويه باسمه، ووصل ذلك إلي السلاطين وحُكّام الجور وأذنابهم، أجمع القوم أمرهم علي أنْ يقفوا في وجه ذلك المشروع فينقضُّوا علي الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه ويطووا صفحته، كما

ص: 55

طويت صفحات آبائه (عليهما السلام) علي أيدي أسلافهم، والمُلك عقيم، لو نازع الولد أباه فيه لأخذ منه الذي فيه عيناه.

صحيح أنَّ الله تعالي غالب علي أمره، وأنَّه تعالي إذا أراد شيئاً فإنَّما يقول له: كن، فيكون، لكن طريقة الحقِّ تعالي في تحقيق ما يريد من الناس هو سلوك السُّبُل المألوفة وعدم الخروج عنها إلي الإعجاز إلَّا في الحالات الاستثنائيَّة.

فتوسَّطت الأسباب المألوفة للناس بين إرادته تعالي ومراده، فكان ما كان مع الأنبياء والأولياء والصالحين في دعوتهم إلي صراط الله المستقيم. نُشِرَ البعض بالمناشير، وقُرِّض آخرون بالمقاريض، ورُمي آخرون بالمنجنيق، وخرج آخر خائفاً يترقَّب ليموت في سنوات التيه، وغير ذلك، ليفعل الله أمراً كان مقدوراً.

وكان من جملة التدابير الإلهيَّة ليبلغ الكتاب أجله وينجو الإمام من كيد الظالمين أنْ خفي أمر حَمْله وولادته ذلك في التكوين، وأنْ حرَّم ذكر اسمه في التشريع((1)).

ص: 56


1- ()1() تكرَّر في الروايات النهي عن تسميته عجل الله تعالي فرجه والشريفه، وقد نقل صاحب البحار في باب النهي عن التسمية ثلاث عشرة رواية (بحار الأنوار: ج 51/ ص 31 - 34). وفي الأُولي عن الغيبة للنعماني (ص 299 و300/ باب 16/ ح 2) يسأل أبو خالد الكابلي الباقر (عليه السلام) بقوله: أُريد أنْ تسميه لي حتَّي أعرفه باسمه، فقال: «سألتني والله يا أبا خالد عن سؤال مجهد، ولقد سألتني عن أمر ما كنت محدِّثاً به أحداً لحدَّثتك، ولقد سألتني عن أمر لو أنَّ بني فاطمة عرفوه حرصوا علي أنْ يُقطِّعوه بضعة بضعة». ويكفي شاهداً علي صحَّة ذلك ما تحدَّثت به الروايات عن كيد عمِّه جعفر، وهو أقرب الناس إليه وأولاهم به. وفي الرواية السابعة عن الكافي (ج 1/ ص 333/ باب في النهي عن الاسم/ ح 2) عن عليِّ بن محمّد، عن أبي عبد الله الصالحي (وهو أبو عبد الله بن الصالح)، قال: سألني أصحابنا بعد مضيِّ أبي محمّد (عليه السلام) أنْ أسأل عن الاسم والمكان، فخرج الجواب: «إن دللتهم عن الاسم أذاعوه، وإنْ عرفوا المكان دلُّوا عليه». ونقل في الكافي (ج 1/ ص 333/ باب في النهي عن الاسم/ ح 3 و4) رواية الريّان بن الصلت في ذلك وهي موثَّقة، ورواية ابن رئاب وهي صحيحة السند.

ولئلَّا ينقطع خبره عن الناس أظهره والده العسكري (عليه السلام) لبعض الخواصِّ في مرّات متعدِّدة، لتتمَّ الحجَّة عن طريق ذلك علي الناس، ولله الحجَّة البالغة علي خلقه.

وقد مهَّد الأئمَّة السابقون (عليهما السلام) لذلك من خلال التعرُّض له، وأنَّه ستخفي ولادته (عليه السلام).

وهذه جملة من الروايات عن الباقر والصادق والكاظم والرضا (عليهما السلام) في خفاء ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

روي الصدوق (رحمه الله) عن محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد 2، قال: حدَّثنا محمّد بن الحسن الصفّار، عن أحمد بن الحسين، عن عثمان )بن( عيسي، عن خالد بن نجيح، عن زرارة بن أعين، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) يقول: «إنَّ للغلام غيبة قبل أنْ يقوم»، قلت: ولِمَ ذاك جُعلت فداك؟ فقال: «يخاف - وأشار بيده إلي بطنه وعنقه -»، ثمّ قال (عليه السلام): «وهو المنتظر الذي يشكُّ الناس في ولادته، فمنهم من يقول إذا مات أبوه:مات ولا عقب له، ومنهم من يقول: قد وُلِدَ قبل وفاة أبيه بسنتين...» الخبر((1)).

والرواية تامَّة سنداً، فعثمان بن عيسي وإنْ كان لفترة من وجوه الواقفة، لكن لم يُشكَّك في وثاقته، بل عدَّه البعض من أصحاب الإجماع((2))، وخالد بن نجيح وإنْ لم يُنَصّ علي وثاقته لكنَّ نَقْلَ ابن أبي عمير عنه كافٍ في توثيقه علي المشهور من قاعدة مشايخ الثلاثة((3)). وباقي الرواة لا مشكلة فيهم.

وفي رواية الحسين بن خالد، عن عليِّ بن موسي الرضا (عليه السلام): ... فقيل له:

ص: 57


1- ()1() كمال الدِّين (ص 346/ باب 33/ ح 32).
2- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 12/ ص 129 - 136/ الرقم 7623).
3- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 8/ ص 38 - 40/ الرقم 4226).

يا بن رسول الله، ومن القائم منكم أهل البيت؟ قال: «الرابع من ولدي ابن سيِّدة الإماء، يُطهِّر الله به الأرض من كلِّ جور ويُقدِّسها من كلِّ ظلم، )وهو( الذي يشكُّ الناس في ولادته، وهو صاحب الغيبة قبل خروجه...» الخبر((1)).

وفي سندها عليُّ بن معبد الذي له كتاب علي ما ذكر النجاشي إلَّا أنَّه لم يُوثَّق((2)). والحسين بن خالد الراوي المباشر عن الرضا (عليه السلام) ممدوح فلا يضرُّ عدم النصِّ علي وثاقته((3))، إذ إنَّ روايته ستكون حسنة وإنْ لم تكن صحيحة. هذا مضافاً إلي ما ذُكِرَ في بعض البحث من أنَّ الأُمورالاعتقادية تحتاج إلي القطع، فالرواية تُشكِّل قرينة احتماليَّة تساهم بضميمة القرائن الأُخري في تحصيل القطع بمؤدّاها. هذا مضافاً إلي أنَّنا أوردنا الروايات هنا للاستشهاد لا للاستدلال.

وفي الخبر الصحيح الذي رواه الكليني عن العدَّة، عن سعد بن عبد الله، عن أيّوب بن نوح، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّا نرجو أنْ تكون صاحب هذا الأمر، وأنْ يسوقه الله إليك عفواً بغير سيف، فقد بويع لك، وقد ضُرِبَت الدراهم باسمك، فقال: «ما منّا أحد اختلفت الكُتُب إليه، وأُشير إليه بالأصابع، وسُئِلَ عن المسائل، وحُمِلَت إليه الأموال، إلَّا اغتيل أو مات علي فراشه، حتَّي يبعث الله لهذا الأمر غلاماً منّا خفيَّ المولد والمنشأ، غير خفيٍّ في نسبه»((4)).

وفي (كمال الدِّين) عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا عليُّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن أبي أحمد محمّد بن زياد الأزدي، عن

ص: 58


1- ()4() كمال الدِّين (ص 371 و372/ باب 35/ ح 5).
2- ()5() راجع: معجم رجال الحديث (ج 13/ ص 195 و196/ الرقم 8535).
3- ()6() راجع: معجم رجال الحديث (ج 6/ ص 249 - 252/ الرقم 3390).
4- ()1() الغيبة للنعماني (ص 173/ باب 10/ فصل 3/ ح 9).

موسي بن جعفر (عليهما السلام) أنَّه قال عند ذكر القائم عجل الله تعالي فرجه والشريفه: «... تخفي علي الناس ولادته، ولا يحلُّ لهم تسميته حتَّي يُظهِره الله عزوجل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً»((1)).

وفيه أيضاً عن محمّد بن أحمد الشيباني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن أبي عبد الله الكوفي، عن سهل بن زياد الآدمي، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن محمّد بن عليٍّ (عليه السلام)، قال: «... القائم ... هو الذي تخفي علي الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سميُّرسول الله (صلي الله عليه وآله) وكنيُّه...»الخبر((2)).

وفيه أيضاً عن أحمد بن هارون الفامي وعليِّ بن الحسين بن شاذويه المؤدّب وجعفر بن محمّد بن مسرور وجعفر بن الحسين B، قالوا: حدَّثنا محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن أيّوب بن نوح، عن العبّاس بن عامر القصباني. وحدَّثنا جعفر بن عليِّ بن الحسن بن عليِّ )بن( عبد الله بن المغيرة الكوفي، قال: حدَّثني جدِّي الحسن بن عليِّ بن عبد الله، عن العبّاس بن عامر القصباني، عن موسي بن هلال الضبي، عن عبد الله بن عطاء، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إنَّ شيعتك بالعراق كثيرون، فوَالله ما في أهل بيتك مثلك، فكيف لا تخرج؟ فقال: «يا عبد الله بن عطاء، قد أمكنت الحشو من أُذنيك، والله ما أنا بصاحبكم»، قلت: فمن صاحبنا؟ قال: «انظروا من تخفي علي الناس ولادته فهو صاحبكم»((3)).

وبعد ملاحظة خفاء الولادة وتحريم الاسم يكون من الطبيعي أنْ لا ينتشر

ص: 59


1- ()2() كمال الدِّين (ص 368 و369/ باب 34/ ح 6).
2- ()1() كمال الدِّين (ص 377 و378/ باب 36/ ح 2).
3- ()2() كمال الدِّين (ص 325/ باب 32/ ح 2).

ذكره عجل الله تعالي فرجه والشريفه، وأنَّ أجلَّة الأصحاب لا يتحدَّثون بما رأوا ولا ينقلون ما سمعوا. ولا يعني ذلك أبداً أنَّه عجل الله تعالي فرجه والشريفه غير موجود، وأنَّ القول بولادته فريَّة افتراها المتقدِّمون طمعاً في فتات دنيا، أعوذ بالله تعالي من غضبه.

إنَّ مقتضي ما ذكرنا من مقتضيات الإخفاء أنْ لا تعلم العوامُّ، وأنْ لا يتحدَّث الخواصُّ حتَّي إذا مرَّت الأيّام والسنين واطمأنَّت نفوس الظالمين بعد رحيل العسكري (عليه السلام) بعقود يخفُّ الطلب فيصبح بالإمكان أنْ يُسرَّب أمر ولادته، فدُوِّن في (الكافي) الذي كُتِبَ في زمن الغيبة الصغري، وفيما سطرته يدا الصدوق (رحمه الله) بعد ذلك بمدَّة ليست بالطويلة جدًّا.

قواعد لا بدَّ من ملاحظتها:

اشارة

هناك جملة من القواعد التي لا بدَّ أنْ لا يغفل عنها الباحث فيما إذا أراد تحصيل العلم من خلال تجميع القرائن، وهذه القواعد قد لا تجري في البحوث الاستنباطيَّة في المسائل الفرعيَّة، ومن هنا قد يغفل الباحث عنها في مثل مسألتنا، ولذا رأيت من المناسب أنْ أُنوِّه لها وأُنبِّه عليها.

الأولي: تعدُّد طريق الرواية يزيد من القيمة الاحتماليَّة لثبوت مضمونها:

إنَّ وحدة الرواية مع اختلاف الطريق لا يُسقِط فائدة اختلاف الطريق إلَّا إذا كان الخبر متوفِّراً علي شرائط الحجّيَّة، فلو أنَّ زرارة مثلاً في الخبر الصحيح أخبر أنَّ الإمام (عليه السلام) قد نصَّ علي حكم في واقعة خاصَّة، ومحمّد بن مسلم نقل نفس تلك الواقعة في خبر صحيح آخر، فإنَّ هذا النقل الثاني لا يترك أثراً زائداً علي ما ثبت للخبر الأوَّل من الحجّيَّة، إذ لا يختلف الحال كثيراً عند الاستناد إلي خبر الثقة بين وجود خبر واحد أو خبرين يحكيان الواقعة، هذا من ناحية الحجّيَّة. نعم، يختلف الحال في جهة شدَّة الانكشاف، إذ بالحساب الوجداني يكون احتمال إصابة الواقع بالخبرين أكبر من احتمال الإصابة بالخبر الواحد،

ص: 60

لكن ارتقاء الاحتمال وقوَّته لا أثر له في الاستنباط؛ لأنَّه ما لم يصل إلي القطع فهو حجَّة بحجّيَّة خبر الثقة، سواء كان احتمال إصابته للواقع بمستوي (90%) أو بنسبة (70%).

وأمَّا إذا لم يكن الخبر متوفِّراً علي شرائط الحجّيَّة، فأثره هو الكشف الاحتمالي، ولا قيمة له إلَّا إذا وصل بضميمة القرائن الأُخري إلي القطع أو إلي الاطمئنان في الموارد التي لم يرد فيها نهي عن ترتيب الأثر ولوحصل الاطمئنان كما في القياس، واكتُفي فيها بالتعبُّد، وإلَّا فإنَّ حصول الاطمئنان لا يُوفِّر شرط الحجّيَّة فيما اعتُبِرَ فيه القطع؛ لأنَّ حجّيَّة الاطمئنان تعبُّديَّة، ولذا فهو غير كافٍ في تحقُّق القطع إذا كان خصوص القطع معتبراً. وكلَّما ازداد الاحتمال قوَّةً قرب أكثر من القطع بحجّيَّته، واحتمال (10%) أقلّ فائدة من احتمال (15%) في ذلك، بل ولو كان متوفِّراً علي شرائط الحجّيَّة وتوفُّر طريقان لنقله، فإنَّ القيمة الاحتماليَّة لمطابقته للواقع أكبر من القيمة الاحتماليَّة فيما لو لم يتوفَّر إلَّا علي طريق واحد.

والسرُّ أنَّ تراكم الاحتمال يعني زيادة الانكشاف، والانكشاف أصلاً ومقداراً خاضع لأسبابه التكوينيَّة ولا ربط للشارع المقدَّس به، نعم قد يُهيِّئ الشارعُ الكاشفَ كإخبار شرعي لكنَّه لا علاقة له أبداً فيما بعد ذلك من الانكشاف. والتشريع مساحته عالم الاعتبار حيث تقبل الأشياء أنْ توجد فيه بجعل جاعل دون أنْ يكون لها ما بإزاء في الخارج، ولا ربط له بعالم التكوين حيث تكون الآثار خاضعة لما هو سبب تكويني لها.

ولا يختلف الحال بين أنْ يكون اختلاف الطريق إلي آخرِ فردٍ فيه أو إلي من هو قبله، فلو كان لنا طريقان إلي زرارة الراوي عن الإمام (عليه السلام) أو الناقل للواقعة، فاحتمال صدق الواقعة وثبوتها من خلال نقل طريق واحد أقلّ من

ص: 61

احتمال ثبوتها لو توفَّر طريق آخر للنقل إلي زرارة، وهكذا يترتَّب هذا الأثر لو كان في وسط السلسلة ثلاثة مثلاً يروونها عن واحد، والشيخ الصدوق (رحمه الله) مثلاً يرويها عنهم عن ذلك المنقول عنه.

ولنُوضِّح ذلك بمثال، لو أنَّ رواية رويت عن زرارة بطريقين، ورواها زرارة عن الإمام (عليه السلام)، وكان في كلٍّ من الطريقين إلي زرارةرجلان، ولنفرض أنَّ نسبة الصدق وعدم الخطأ في كلٍّ من الرجلين (70%)، وكذلك في الرجلين الآخرين، وكانت نسبة عدم الخطأ في نقل زرارة (95%)، فإنَّ احتمال صدور الرواية وفق الطريق الأوَّل هو حاصل ضرب احتمالات الصدق وعدم الخطأ في رجال ذلك الطريق الذي يساوي (70×70×95) والذي يساوي (46.55%)، هذا إذا لاحظنا طريقاً واحداً إلي زرارة، وأمَّا إذا لاحظنا الطريقين إليه، فاحتمال إخبار زرارة في كلٍّ من الطريقين هو حاصل ضرب (70×70) وهو (49%)، واحتمال إخباره في الطريق الثاني (49%) أيضاً، فاحتمال عدم صدور الإخبار عن زرارة لأحد الطريقين ما قابل (49%) في كلٍّ منهما مضروباً ببعضه أي (51%×51%) وهو يساوي (26.01%)، فاحتمال صدور الإخبار من زرارة لواحد منهما (73.99%)، وإذا أردنا أنْ نعرف احتمال صدور الخبر من الإمام (عليه السلام) كانت النتيجة حاصل ضرب (73.99%*95%) وهو (70.2905%).

فكان انعكاس وجود طريقين إلي زرارة إلي الإمام (عليه السلام) واضحاً، إذ علي ملاحظة طريق واحد جعل الاحتمال (46.55%) تقريباً، وعلي ملاحظة الطريقين كانت النتيجة (70.3%) تقريباً.

فلا يرد إشكال أنَّ الرواية واحدة، فلا وجه للتعرُّض للطريق الثاني.

نعم، إذا كان الإثبات بواسطة التعبُّد بالسند لم ينفع كثيراً وجود طريق ثاني؛ لأنَّه لا يُحوِّلها إلي متيقِّنة، ولا فرق في التعبّدي بعد توفُّر شرائط التعبُّد بين

ص: 62

طريق واحد وطريقين، إذ يكفينا للتعبُّد وجود طريق واحدٍ تامٍّ، ويُحقِّق موضوع الحجّيَّة.

والمفروض أنَّنا نبحث عن القرائن الاحتماليَّة التي توصلنا إلياليقين.

الثانية: لا علاقة لبحثنا بحجّيَّة الأمارة في مثبتاتها:

ثمّ لا علاقة لما ذكرناه من دلالة الأدلَّة بالدلالة الالتزاميَّة بما بني عليه البعض من عدم حجّيَّة الأمارات في مداليلها الالتزاميَّة.

توضيحه: أنَّ الأُصوليِّين قد اختلفوا في حجّيَّة الأمارة التي قام الدليل علي اعتبارها في المدلول الالتزامي بعد الاتِّفاق علي الحجّيَّة في المدلول المطابقي. وقد بني النائيني (رحمه الله) علي أنَّ الحجّيَّة تُفسَّر بجعل العلميَّة، فالشارع المقدَّس حين قبل بحجّيَّة خبر الثقة وأمضاها كان قد جعل في موردها علماً تعبُّديًّا اعتباريًّا، فإذا أخبرني الثقة بأنَّ ابني الغائب حيٌّ ثبتت حياته بالعلم الاعتباري، إذ ليس في الوجدان إلَّا الظنُّ الناشئ من إخبار الثقة.

ولمَّا كانت الحياة ملازمة للأكل والشرب، فإذا كان حيًّا فهو يأكل ويشرب، فالعلم بالشيء علم بلوازمه، فعلمي الجعلي بحياة الولد علم جعلي أيضاً بأنَّه يأكل ويشرب.

وقد أشكل السيِّد الخوئي علي أُستاذه النائيني 0 بأنَّ اعتبار الشخص عالماً بالحياة لا يستلزم اعتباره عالماً بلوازمها، فدائرة الاعتبار تحديدها اختياري للمعتبر، فقد يجعل الاعتبار لأحد المتلازمين دون الآخر. وهذا في حدِّ نفسه صحيح إنْ كان اعتباراً محضاً، أمَّا إذا كان الاعتبار دائراً مدار مقدار الانكشاف بالخبر مثلاً فانكشاف المدلول الالتزامي بمستوي انكشاف المدلول المطابقي فلا بدَّ من شمول الاعتبار للمدلول الالتزامي أيضاً.

ولسنا بصدد مناقشة سلامة أو سقم مبني السيِّد الخوئي 1، بل نقول: إنَّ

ص: 63

هذا المبني لا يُؤثِّر علي النتيجة في محلِّ بحثنا؛ لأنَّه إنَّما يُؤثِّر إذا أردناأنْ نُثبِت المدَّعي من خلال دليل الحجّيَّة التعبُّديَّة في مساحة المدلول الالتزامي، ونحن من خلال استعراض الشواهد والأدلَّة بما في ذلك ما كان دالّاً بالدلالة الالتزاميَّة نبغي الوصول إلي القطع من خلال ضمِّ الأدلَّة إلي بعضها. والانكشاف في المداليل الالتزامية وجداني وإنْ لم نُدخِل فيه دليل الحجّيَّة، وضمُّ هذه المحتملات إلي بعضها عن طريق نظريَّة تراكم الاحتمال يوصلنا إلي القطع الوجداني، والقطع حجّيَّته غير مجعولة ليُشكَّك في شمولها لهذا المورد أو لا، بل هي لازمة الثبوت له غير قابلة للانفكاك عنه، حتَّي لو أراد الشارع أنْ يُسقِطها عنه فإنَّه لا يمكنه ذلك، إذ يستحيل علي الشارع بما هو شارع أنْ يُفكِّك بين المتلازمين، فإنَّ القدرة تتعلَّق بالممكن، والتفكيك بين المتلازمين أمر ممتنع، نعم للشارع بما هو خالق أنْ يرفع موضوع حجّيَّة القطع، أي أنْ يرفع القطع من نفس المكلَّف فترتفع حجّيَّته تبعاً لذلك.

وعليه، إذا وصلنا إلي القطع فالمباني تتَّفق علي حجّيَّته وعلي عدم إمكان التفكيك بينه وبين حجّيَّته، ولا فرق بين أنْ يكون منشأ تولُّده مداليل التزاميَّة أو مطابقيَّة أو ما هو ملفَّق منهما معاً، فحجّيَّة القطع لا ربط لها بمقدّمات حصوله، نعم أسقط البعض حجّيَّته إذا كان ناشئاً من مقدّمات عقليَّة، ومنع البعض من معذّريَّته إذا حصل لقطّاع - وهو الذي يحصل عنده القطع سريعاً -، وهذان المبنيان علي بطلانهما لا يضرّان في محلِّ كلامنا.

بل إنَّ موضوعنا لا ربط له بالحجّيَّة التعبُّديَّة؛ لأنَّنا نتحدَّث عن مسألة اعتقاديَّة وليست فرعاً من الفروع الفقهيَّة، والمعتقد ليس فيه أحكام ليُنظَر في تنجيزها أو التعذير عنها كما هو مقتضي الحجّيَّة؛ لأنّي فيالجانب العقدي أسعي لإدراك الواقع، ولا أبحث عن منجِّز أو معذِّر بلحاظه. نعم، قد يحكم العقل في

ص: 64

بعض المعتقدات بضرورة النظر في المقدّمات فيجب النظر، ولا ربط لذلك بحجّيَّة الدليل الذي أنظر إليه، وإنَّما وجب النظر لكي تنكشف الحقيقة التي قد يكون إدراكها مقدّمة للواجب، كما قيل في وجوب شكر المنعم شكراً لائقاً بشأنه، ومعرفة اللائق بشأنه تتوقَّف علي معرفته.

الثالثة: ظهور الرواية في معني لا يُسقِط فائدتها في إثبات معني آخر:

إنَّ تجميع القرائن الاحتماليَّة وضمَّها إلي بعضها يتَّسع ليشمل الروايات لإثبات معني مقابل للمعني الذي تكون الرواية ظاهرة فيه، فإنَّه ما دام احتمال إرادته من الرواية واقعيًّا فإنَّ الرواية تُشكِّل قيمة احتماليَّة إضافيَّة قد يستفيد منها الباحث من خلال ضمِّها إلي بقيَّة القرائن الأُخري، ليكون الحاصل الاحتمالي من المجموع أكثر من احتمال كلِّ قرينة علي حِدَة.

فلو رأيت اجتماع قوم وسألت عن سبب الاجتماع فنصَّ ثقةٌ علي أنَّ بطلاً يخطب في الناس، وكانت نسبة مطابقة ظاهر خبره للواقع (80%)، وفي ليل ذلك اليوم أخبرك شخص آخر بأنَّه رأي في ذلك اليوم في مكان الاجتماع أسداً يزأر وكانت نسبة صدقه (100%) مثلاً، لكن احتمال إرادته للمعني الحقيقي أي الحيوان المفترس المعهود (60%) واحتمال إرادة البطل الذي يخطب (40%)، فإنَّ احتمال أنْ يكون بطل قد خطب في ذلك اليوم في ذلك المكان هو حاصل ضمِّ الاحتمالين (80%) و(40%)، وفي مثله يُحسَب الناتج من خلال أخذ الاحتمال المخالف في كلٍّ منهما ويُضرَبان، والاحتمال المقابل لحاصل عمليَّة الضرب هو حاصلالخبرين.

وحاصل عمليَّة ضرب (20%) المقابل ل (80%) و(60%) المقابل ل (40%) هو (12%)، فاحتمال وقوع خطبة لبطل في السوق هذا اليوم (88%).

فانعكس ضمُّ هذه القرينة الاحتماليَّة مع أنَّها علي خلاف الظاهر بزيادة قدرها (8%).

ص: 65

نعم لا يتحقَّق ذلك، بل يتحقَّق عكسه لو فرضنا أنَّ المحتمل بنسبة (60%) ينفي المحتمل بنسبة (40%) كما لو كان الخبران السابقان يتحدَّثان عن نفس الواقعة لا عن واقعتين ربَّما حصلتا في مكان واحد، بل هي واقعة واحدة وهي إمَّا خطبة بطل أو زئير أسد، وليس من المعقول أنْ يكون الخبر النافي لمضمون الخبر الأوَّل بنسبة (60%) والموافق له بنسبة (40%) داعماً للخبر الأوَّل.

ففي الوقت الذي تدعم فيه نسبة ال (40%) مضمون الخبر الأوَّل فإنَّ ال (60%) تُضعِّفه، ومن غير المعقول أنْ يكون تأثير النسبة الأقلّ أكثر من تأثير النسبة الأكثر.

أمَّا لو كان المحتمل بنسبة (60%) لا ينافي المحتمل بنسبة الأربعين في الخبر فإنَّ ذلك بقوَّة الخبرين المستقلَّين أحدهما مطابق لمضمون خبرنا الأوَّل السابق ونسبته (40%)، والآخر لا علاقة له به ونسبته (60%)، فيبقي تأثير هذه ال (40%) بلا معارض في التأثير.

ويمكن أنْ يقع ذلك فذلكة لوجه جعل بعض الأخبار الضعيفة أو غير الحجَّة مؤيِّداً للأدلَّة التي تدلُّ علي مضمونٍ ما، إذ قد يكون التخريج الفنّي للتأييد هو ما ذكرناه.

والنتيجة أنَّ الأخبار التي لا ترتقي إلي الحجّيَّة، بل لا ترتقي إلي الظهور في الدلالة لا تسقط عن الانتفاع بها في عمليَّة تجميع القرائن للوصول إلي القطع أو ما هو كالقطع فعلاً أو عملاً بحكم العقل، إذا كان الاحتمال القابل له بدرجة من الضآلة بحيث إنَّ العقل لا يلتفت إليه أو لا يُرتِّب عليه الأثر وإن التفت إليه.

نعم، مثل هذا الخبر لا يمكن الاحتجاج به كدليل مستقلٍّ ونحن لسنا بصدد الاحتجاج به منفرداً، خصوصاً وقد ذكرنا أنَّ مفردات الاعتقاد ولو كانت في التفاصيل لا يجري فيها التعبُّد وقبول الأدلَّة الظنّيَّة التي يحتجُّ بها في الفروع.

ص: 66

ويمكن أنْ نُعمِّم ذلك للخبر المجمل الذي لا يتنافي معنياه المحتملا الإرادة منه. والمقصود بالتنافي ليس التنافر في مرحلة الحكاية، بل تنافر ذات المحكيَّين قبل الحكاية أو بغضِّ النظر عن الحكاية، فلو أتي بكلام واحتملنا أنَّه أراد المعني الأوَّل أو المعني الثاني، كما لو أخبر بوجود زيد في الخارج، ولم نعرف أنَّه أراد زيداً الأوَّل أو الثاني كان كلٌّ منهما محتمل الإرادة. والمحكيان بغضِّ النظر عن الحكاية لا تنافي بينهما، إذ يمكن أنْ يكونا معاً في الخارج. نعم في مرحلة الحكاية علمنا أنَّه أراد الإخبار عن وجود أحدهما في الخارج، فحكايته هنا توجب قوَّة احتماليَّة أنْ يكون المراد زيداً الأوَّل كما توجب احتمال أنْ يكون المراد زيداً الثاني.

الرابعة: انتفاء المضعِّف الاحتمالي المقابل في محلِّ بحثنا:

ثمّ إنَّ هذا الذي أثبتناه بتراكم الاحتمال يتميَّز بأنَّه لا مضعِّف له في الجهة الأُخري، أي إنَّه لا يوجد شاهد أو دالٌّ علي عدم وجوده عجل الله تعالي فرجه والشريفه، فالشواهد العكسيَّة منتفية. وما عسي النافي لوجوده عجل الله تعالي فرجه والشريفه أنْ يقول، وما الدليل الذي يصحُّأنْ يستند إليه؟ اللَّهُمَّ إلَّا نحو من الاستبعادات التي لا تستند إلي مبرِّر موضوعي ووجه قابل للتعويل عليه.

فالرواية المتواترة قد تجد رواية معارضة لها، والإجماع قد تجد من يُفتي بخلافه من الطائفة مثلاً، أمَّا هنا فلا وجه لخلاف شخص نحتمل فيه أنَّه استند إلي مبرَّر موضوعي.

نعم، من المسلَّم أنَّ في هذه القضيَّة ما يجعل الاحتمال الموافق أضعف ممَّا في قضايا أُخري؛ لأنَّ للأخبار بحياته عجل الله تعالي فرجه والشريفه لوازم غير مألوفة، وغرابة القضايا ولو من خلال غرابة لوازمها تجعل كاشفيَّة الحاكي عنها أقلّ ممَّا هي فيما عداها من القضايا.

ص: 67

ومن مفردات الغرابة والاستبعاد:

1 - بقاء شخص كلَّ هذه المدَّة المديدة من العمر، فإنْ قيل: تحقُّق الحالات المشابهة يدفع الغرابة ويلغي الاستبعاد، وقد تحدَّث القرآن الكريم عن حالة مشابهة وهي عمر نوح، وأثبت الموروث الروائي حياة الخضر وحياة إدريس النبيِّ وحياة عيسي المسيح (عليهما السلام)، ولكن ذلك غير كافٍ في رفع الغرابة، ولو ثبتت علي مرِّ التاريخ مائة حالة من هذا القبيل لما زالت الغرابة، نعم تَخُفُّ إلي حدٍّ ما.

2 - وجوده بين الناس أو في الأرض دون أنْ يتيسَّر لهم معرفة شخصه لكلِّ هذه المدَّة المديدة.

3 - تمكُّنه من التخلُّص من البحث والطلب الحثيث من السلطات في أوائل غيبته دون أنْ يعثروا علي عين أو أثر منه.

ومثل هذه المفردات تجعل القيمة الاحتمالية لصحَّة الخبر بوجوده عجل الله تعالي فرجه والشريفه أضعف، ممَّا يعني الحاجة في سبيل الوصول إلي القطع إلي روايات أكثرممَّا تحتاجه قضيَّة عاديَّة لكي يحصل القطع بها.

الخامسة: عدم تماميَّة القاعدة إثباتاً لا يلغي احتمالها ثبوتاً:

هناك بعض القواعد الرجاليَّة التي تُثبِت توثيقات عامَّة، أي لا تختصُّ براوٍ دون آخر. وقد اختُلِفَ في بعضها، فمثلاً اختُلِفَ في أنَّ ورود اسم الراوي في تفسير القمّي هل يُعتَبر دليلاً علي وثاقته أو لا؟ واختُلِفَ في أنَّ ورود اسم راوٍ في أسانيد كامل الزيارة هل هو دليل علي الوثاقة أو لا؟ وكذا في كون راوٍ من مشايخ الإجازة دالّاً علي الوثاقة أو لا؟ وغير ذلك من القواعد.

فإنْ تمَّت تلك القاعدة ثبتت وثاقة الراوي، ووثاقته تعني ضعف احتمال أنْ يكون خبره مخالفاً للواقع؛ لأنَّ الوثاقة تنفي تعمُّد الكذب، فيبقي مع الوثاقة احتمال الخطأ غير المقصود، وهو في النقل الحسّي احتمال ضعيف، بل الوثاقة بنفسها تستدعي إعمال الدقَّة في النقل ممَّا يُضيِّق احتمال وقوع الخطأ.

ص: 68

ولمَّا كانت هذه القواعد العامَّة في التوثيقات استظهاريَّة في الأغلب احتملنا أنَّ الوثاقة الثابتة بها غير ثابتة في الواقع، فلا يسقط احتمال تعمُّد الكذب إلَّا أنَّه يضعف جدًّا.

وأمَّا إذا لم تثبت تلك القاعدة، فإنَّ غاية ما يقال: إنَّها لم ينهض دليل لإثباتها مع أنَّها يحتمل أنْ تكون موجودة في الواقع، وهذا يعني أنَّ من تنطبق عليه القاعدة الرجاليَّة للتوثيق والتي اختُلِفَ في صحَّتها، لا يكون الكشف الاحتمالي لصحَّة إخباره كمن لم تشمله مثل هذه القاعدة حتَّي عند من لم تثبت عنده تلك القاعدة، فالنافي لها لم ينهض عنده دليل علي نفيها في كثير من الأحيان، إلَّا أنَّه لم يتمّ الدليل علي صحَّتها، وعدم تماميَّةالدليل لا ينفي ثبوت المستدَلِّ عليه في الواقع. نعم، احتمال مطابقة خبره للواقع أقلّ من احتمال مطابقة خبر من شملته قاعدة صحيحة في التوثيقات العامَّة نوعاً.

السادسة:إنَّ المبحوث عنه هو صدور هذا اللفظ من المعصوم (عليه السلام)

مثلاً مع إرادة خصوص المعني الكذائي من الحديث، وليست وثاقة الراوي إلَّا طريقاً لذلك. ولا فرق في هذا بين كون موضوع الحجّيَّة وثاقة الراوي أو الوثوق بالمرويِّ كما عليه المشهور. والأمر لا يختلف كثيراً من الناحية العمليَّة؛ لأنَّ من قال: إنَّ موضوع الحجّيَّة هو الوثوق بالمرويِّ طريقه الأساسي لإثبات ذلك هو وثاقة الراوي. نعم، قد يظهر الفرق فيما لو توفَّرت قرائن غير وثاقة الراوي استدعت الوثوق بالمرويِّ ولم تتوفَّر وثاقة للراوي، فإنَّه يقال بالحجّيَّة بناءً علي كون موضوعها الوثوق بالمرويِّ، ولا تثبت الحجّيَّة بناءً علي كون الموضوع هو وثاقة الراوي.

وقد وردت بعض الأخبار - سنشير إليها في طيّات البحث - نصل فيها

ص: 69

إلي راوٍ لم تثبت وثاقته إلَّا أنَّه كان في زمان سابق علي ما أخبر به وتحقَّق ما أخبر به في لاحق الأيّام، فلا حاجة إلي البحث عن وثاقته، بل نجزم حينها بصحَّة الخبر منه. وذلك لا يعني أنَّه ثقة، بل يعني أنَّ خبره هذا صحيح. فإذا ورد عنه خبر آخر لم نثق بمضمونه لا يمكن أنْ نعتمد عليه؛ لأنَّه روي لنا مرَّة خبراً مطابقاً للواقع. فالكذاب لا يكون كلُّ قوله كذباً، فإذا وجدنا في الرجل صدقاً مرَّة لم يعن ذلك أبداً أنَّه صادق في كلِّ ما يقول.

وينسحب الأمر إلي من نقل هذا الراوي الخبر عنهم ولو بواسطة،فنقبل ذلك الخبر منهم لشاهد الصدق الذي فيه، بل لدليل الصدق القاطع الذي فيه. ولا فرق هنا بين كون المبني في الحجّيَّة معتمداً علي الوثوق بالمرويِّ أو علي وثاقة الراوي؛ لأنَّ القبول للخبر هنا ليس للتعبُّد، بل للقطع، فلا علاقة للحجّيَّة به. هذا أوَّلاً.

وثانياً لأنَّ ما نبحث عنه - وفق ما ستراه في ما سيأتي من البحث - هو الانكشاف الواقعي للقضيَّة التي نبحث عن ثبوتها لا التعبُّد بثبوتها.

ومن هنا يتَّضح أنَّ الكاشف الاحتمالي في هذا الراوي - في خصوص الخبر - ومن نقل عنهم لا يعمل، بل هو قطع كما تقدَّم.

وهذا يسري إلي من نقل عن هذا الراوي إذا كان خبره قبل حدوث ما أخبر عنه، إذ يصبح خبره قطعي الصدق من جهة تصديق الواقع له، فلا يكون تعدُّد الطبقات هنا مضعِّفاً احتماليًّا لصحَّة الخبر وصدق مضمونه.

السابعة: المهمُّ إثبات وجود الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه:

اشارة

ليس من الضروري إثبات ولادة الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه بأدلَّة دلَّت علي ذلك مطابقةً، بل يكفي قيام الأدلَّة علي ذلك ولو كانت دلالتها التزاميَّة. وليس من الضروري إثبات أنَّ الإمامة ضرورة عقلاً أو قرآنيًّا أو حتَّي روائيًّا، بل المهمُّ إثبات أنَّها

ص: 70

حقيقة شاخصة بنحو البتِّ والجزم، فالصلاة التي هي عمود الدِّين بصيغتها المعروفة ليست بهذه الصيغة ضرورةً.

وبتعبير آخر ليس مهمًّا إثبات الضرورة قبل الجعل، بل المهمُّ والملزم هو القطع بعد الجعل، أو بتعبير أدقّ القطع بالجعل.

نعم، إثبات ضرورتها قد ينعكس علي فهمنا لحيثيَّة إضافيَّة.

طوائف الروايات الدالَّة علي ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه:
اشارة

هنا جملة من الطوائف الروائيَّة التي دلَّت علي وجوده عجل الله تعالي فرجه والشريفه، وسنحاول الوقوف علي بعض أمثلتها، وليس المقصود أبداً استيعابها جميعاً وإلَّا اتَّسع البحث إلي ما لا يتلاءم مع الغرض من كتابة هذه الأوراق.

وكلُّ هذه الأخبار إلَّا طائفة أو طائفتين ترجع إلي إخبارات المعصومين (عليهما السلام).

المعصومون (عليهما السلام) الذين يُنبؤوننا عن الغيب فنُصدِّقهم، ويُخبروننا عن الله عزوجل فنقبل منهم، ويُعلِّموننا الكتاب والحكمة فنذعن لهم؛ لأنَّنا نعلم أنَّ ما يُخبِرون به ويتحدَّثون عنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهم الذين لا ينطقون عن الهوي، طابت وطهرت نفوسهم، وكم هو جميل كلام خزيمة بن ثابت في قصَّة شراء النبيِّ (صلي الله عليه وآله) فرساً من الأعرابي، وهي قصَّة معروفة.

فعن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن الحسن بن موسي الخشّاب، عن غياث بن كلوب، عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) أنَّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) اشتري فرساً من أعرابي، فأعجبه، فقام أقوام من المنافقين حسدوا رسول الله (صلي الله عليه وآله) علي ما أخذ منه، فقالوا للأعرابي: لو تبلَّغت به إلي السوق بعته بأضعاف هذا، فدخل الأعرابي الشَّرَه، فقال: ألَا أرجع، فأستقيله؟ فقالوا: لا، ولكنَّه رجل صالح، فإذا جاءك بنقدك فقل: ما بعتك بهذا فإنَّه سيردُّه

ص: 71

عليك، فلمَّا جاء النبيُّ (صلي الله عليه وآله) أخرج إليه النقد، فقال: ما بعتك بهذا، فقال النبيُّ (صلي الله عليه وآله): «والذي بعثني بالحقِّ لقد بعتني بهذا»، فقام خزيمة بن ثابت فقال: يا أعرابي، أشهد لقد بعت رسول الله (صلي الله عليه وآله) بهذا الثمن الذي قال، فقال الأعرابي: لقد بعته وما معنا من أحد، فقال رسول الله (صلي الله عليه وآله)لخزيمة: «كيف شهدت بهذا؟»، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأُمّي تُخبِرنا عن الله وأخبار السماوات فنُصدِّقك ولا نُصدِّقك في ثمن هذا؟ فجعل رسول الله (صلي الله عليه وآله) شهادته شهادة رجلين، فهو ذو الشهادتين((1)).

والروايات التي أوردتها - ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه - كثيرة، وسنبدأ باستعراض بعض أمثلة طوائفها:

الطائفة الأُولي: ما دلَّ علي ولادته مطابقةً:

1 - كمال الدِّين: حدَّثنا الحسين بن أحمد بن إدريس 2، قال: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا محمّد بن إسماعيل، قال: حدَّثني محمّد بن إبراهيم الكوفي، قال: حدَّثنا محمّد بن عبد الله الطهوي، قال: قصدت حكيمة بنت محمّد (عليه السلام) بعد مضيِّ أبو محمّد (عليه السلام) أسألها عن الحجَّة وما قد اختلف فيه الناس من الحيرة التي هم فيها، فقالت لي...

فقلت: يا مولاتي، هل كان للحسن (عليه السلام) ولد؟

فتبسَّمت، ثمّ قالت: إذا لم يكن للحسن (عليه السلام) عقب فمن الحجَّة من بعده وقد أخبرتك أنَّه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام)؟

فقلت: يا سيِّدتي، حدِّثيني بولادة مولاي وغيبته (عليه السلام).

قالت: نعم، كانت لي جارية يقال لها: نرجس، فزارني ابن أخي، فأقبل يحدق النظر إليها، فقلت له: يا سيِّدي، لعلَّك هويتها، فأُرسلها إليك؟

ص: 72


1- ()1() الاختصاص (ص 64).

فقال: «لا يا عمَّة، ولكنّي أتعجَّب منها».

فقلت: وما أعجبك )منها(؟

فقال (عليه السلام): «سيخرج منها ولد كريم علي الله عزوجل، الذي يملأ الله بهالأرض عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً((1)).

2 - كمال الدِّين: حدَّثنا عليُّ بن الحسن بن الفرج المؤذِّن (رضي الله عنه)، قال: حدَّثني محمّد بن الحسن الكرخي، قال: سمعت أبا هارون - رجلاً من أصحابنا - يقول: رأيت صاحب الزمان (عليه السلام)، وكان مولده يوم الجمعة سنة ستّ وخمسين ومائتين((2)).

3 - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن موسي بن المتوكِّل (رضي الله عنه)، قال: حدَّثني عبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدَّثني محمّد بن إبراهيم الكوفي أنَّ أبا محمّد (عليه السلام) بعث إلي بعض من سمّاه لي بشاة مذبوحة، وقال: «هذه من عقيقة ابني محمّد»((3)).

4 - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن عليٍّ ماجيلويه (رضي الله عنه)، قال : حدَّثنا محمّد بن يحيي العطّار، قال: حدَّثنا الحسين بن عليٍّ النيسابوري، قال: حدَّثنا الحسن بن المنذر، عن حمزة بن أبي الفتح، قال: جاءني يوماً فقال لي: البشارة، وُلِدَ البارحة في الدار مولود لأبي محمّد (عليه السلام)، وأمر بكتمانه، قلت: وما اسمه؟ قال: سُمّي بمحمّد، وكُنّي بجعفر((4)).

5 - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضي الله عنه)،

ص: 73


1- ()1() كمال الدِّين (ص 426/ باب 42/ ح 2).
2- ()2() كمال الدِّين (ص 432/ باب 42/ ح 9).
3- ()3() كمال الدِّين (ص 432/ باب 42/ ح 10).
4- ()4() كمال الدِّين (ص 432/ باب 42/ ح 11).

قال: حدَّثنا الحسن بن عليِّ بن زكريا بمدينة السلام، قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمّد بن خليلان، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن غياث بن أسيد، قال: شهدت محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه) يقول: لمَّاوُلِدَ الخلف المهدي (عليه السلام) سطع نور من فوق رأسه إلي أعنان السماء، ثمّ سقط لوجهه ساجداً لربِّه (تعالي ذكره)، ثمّ رفع رأسه وهو يقول: «(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 18 إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) )آل عمران: 18 و19(»، قال: وكان مولده يوم الجمعة((1)).

6 - كمال الدِّين: بهذا الإسناد((2))، عن محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه) أنَّه قال: وُلِدَ السيِّد (عليه السلام) مختوناً، وسمعت حكيمة تقول: لم يُرَ بأُمِّه دم في نفاسها، وهكذا سبيل أُمَّهات الأئمَّة (عليهما السلام)((3)).

7 - كمال الدِّين: حدَّثنا أبو العبّاس أحمد بن الحسين بن عبد الله بن مهران الآبي الأزدي العروضي بمرو، قال: حدَّثنا أحمد بن الحسن بن إسحاق القمّي، قال: لمَّا وُلِدَ الخلف الصالح (عليه السلام) ورد عن مولانا أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) إلي جدِّي أحمد بن إسحاق كتاب، فإذا فيه مكتوب بخطِّ يده (عليه السلام) الذي كان ترد به التوقيعات عليه، وفيه: «وُلِدَ لنا مولود، فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فإنّا لم نُظهِر عليه إلَّا الأقرب لقرابته والوليَّ لولايته، أحببنا إعلامك ليسرَّك الله به مثل ما سرَّنا به، والسلام»((4)).

ص: 74


1- ()1() كمال الدِّين (ص 433/ باب 42/ ح 13).
2- ()2() أي إسناد الرواية السابقة.
3- ()3() كمال الدِّين (ص 433/ باب 42/ ح 14)
4- ()4() كمال الدِّين (ص 433 و434/ باب 42/ ح 16).

8 - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن الحسن الكرخي، قال: حدَّثنا عبد الله بن العبّاس العلوي،قال: حدَّثنا أبو الفضل الحسن بن الحسين العلوي، قال: دخلت علي أبي محمّد الحسن ابن عليٍّ (عليهما السلام) بسُرَّ من رأي، فهنَّأته بولادة ابنه القائم (عليه السلام)((1)).

9 - الغيبة للطوسي: أخبرنا جماعة، عن أبي محمّد هارون بن موسي التلعكبري، عن أحمد بن عليٍّ الرازي، قال: حدَّثني محمّد بن عليٍّ، عن حنظلة بن زكريّا، عن الثقة، قال: حدَّثني عبد الله بن العبّاس العلوي - وما رأيت أصدق لهجةً منه، وكان خالفنا في أشياء كثيرة -، قال: حدَّثني أبو الفضل الحسين بن الحسن العلوي، قال: دخلت علي أبي محمّد (عليه السلام) بسُرَّ من رأي، فهنَّأته بسيِّدنا صاحب الزمان (عليه السلام) لمَّا وُلِدَ((2)).

10 - كمال الدِّين: وقال أبو الحسن عليُّ بن محمّد حباب، حدَّثني أبو الأديان، قال: قال عقيد الخادم. وقال أبو محمّد بن خيرويه التستري، وقال حاجز الوشّاء، كلُّهم حكوا عن عقيد الخادم. وقال أبو سهل بن نوبخت: قال عقيد الخادم: وُلِدَ وليُّ الله الحجَّة بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسي ابن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (صلوات الله عليهم) أجمعين ليلة الجمعة غرَّة شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين من الهجرة، ويُكنّي أبا القاسم، ويقال: أبو جعفر، ولقبه: المهدي، وهو حجَّة الله عزوجل في أرضه علي جميع خلقه، وأُمُّه صقيل الجارية، ومولده بسُرَّ من رأي في درب الرصافة، وقد اختلف الناس في ولادته، فمنهم من أظهر، ومنهم من كتم، ومنهم من نهي عن ذكر خبره، ومنهم من أبدي ذكره، والله أعلم به((3)).

ص: 75


1- ()1() كمال الدِّين (ص 434/ باب 43/ ح 1).
2- ()2() الغيبة للطوسي (ص 229 و230/ ح 195).
3- ()3() كمال الدِّين (ص 474 و475/ باب 43/ ضمن الحديث 26).

11 - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن موسي بن المتوكِّل (رضي الله عنه)، قال: حدَّثناعبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدَّثنا محمّد بن أحمد العلوي، عن أبي غانم الخادم، قال: وُلِدَ لأبي محمّد (عليه السلام) ولد، فسمّاه محمّداً، فعرضه علي أصحابه يوم الثالث، وقال: »هذا صاحبكم من بعدي، وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تمتدُّ إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً»((1)).

12 - كمال الدِّين: حدَّثنا أبي ومحمّد بن الحسن (رضي الله عنهما)، قالا: حدَّثنا عبد الله ابن جعفر الحميري، قال: كنت مع أحمد بن إسحاق عند العمري (رضي الله عنه)، فقلت للعمري: إنّي أسألك عن مسألة كما قال الله عزوجل في قصَّة إبراهيم: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلي وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) )البقرة: 260(: هل رأيت صاحبي؟ فقال لي: نعم، وله عنق مثل ذي - وأومأ بيديه جميعاً إلي عنقه -، قال: قلت: فالاسم؟ قال: إيّاك أنْ تبحث عن هذا، فإنَّ عند القوم أنَّ هذا النسل قد انقطع((2)).

وهذه الرواية لا نبالغ إنْ قلنا بكفايتها في إثبات وجوده عجل الله تعالي فرجه والشريفه، إذ لا نحتمل الخطأ وتعمُّد الكذب في والد الصدوق وابن الوليد معاً، وكذا الحميري والعمري، والمسألة ليست ممَّا يتحقَّق فيه الاشتباه.

وأمَّا الدلالة فلا غبار عليها، فإنَّنا وإنْ لم نكتفِ بكلمة (صاحبي)، لكن قوله: (إيّاك أنْ تبحث عن هذا فإنَّ عند القوم أنَّ هذا النسل قد انقطع) يُشكِّل قرينة قطعيَّة علي أنَّ المراد هو الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

ولو لم نقطع فإنَّها موجبة للاطمئنان العالي.

13 - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضي الله عنه)،

ص: 76


1- ()1() كمال الدِّين (ص 431/ باب 42/ ح 8).
2- ()2() كمال الدِّين (ص 441 و442/ باب 43/ ح 14).

قال: سمعت أبا عليٍّ محمّد بن همّام يقول: سمعت محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه) يقول: خرج توقيع بخطٍّ أعرفه: «من سمّاني في مجمع من الناس باسمي فعليه لعنة الله»، قال أبو عليٍّ محمّد بن همّام: وكتبت أسأله عن الفرج متي يكون؟ فخرج إليَّ: «كذب الوقّاتون»((1)).

ومحمّد بن همّام ثقة جليل القدر((2)).

ومحمّد بن إبراهيم ترضّي عنه الشيخ الصدوق (رحمه الله)، لكن ذلك لا يُثبِت وثاقته.

وهذه الرواية لا شكَّ أنَّ المقصود فيمن خرج توقيعه هو الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

كما أنَّ قوَّة احتمال صدورها واضحة، وربَّما هي أكثر من قوَّة احتمال صدور رواية في سندها خمسة ثقاة مثلاً كانت نسبة مطابقة الواقع في أخبارهم بمستوي (80%)؛ لأنَّ احتمال صدور هكذا رواية هو حاصل ضرب (80%) في نفسها خمس مرّات وهو ما يقلُّ قليلاً عن (33%).

وأمَّا هذه الرواية إذا فرضنا أنَّ نسبة المطابقة في إخبار محمّد بن إبراهيم (50%) وهو قليل؛ لأنَّ الشيخ الصدوق (رحمه الله) قد ترضّي عليه في المشيخة في طريقه إلي أبي سعيد الخدري وإلي أحمد بن محمّد بن سعيد، ويوجد ما يدلُّ علي تشيُّع الرجل. وقد روي عنه الصدوق (رحمه الله) كثيراً، وكنّاه في أكثر من مورد بأبي العبّاس((3)). وهذه القرائن إنْ لم تُثبِت وثاقته، فلا أقلَّ من عدم كونه معروفاً بالكذب.

وهذا يجعل احتمال الصدق في خبره أكثر من (50%) بمقدارواضح، لكن لو فرضنا أنَّ نسبة المطابقة في خبره هذا (50%) ونسبة المطابقة في خبر محمّد بن

ص: 77


1- ()1() كمال الدِّين (ص 483/ باب 45/ ح 3).
2- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 15/ ص 244 و245/ الرقم 9992).
3- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 15/ ص 230 و231/ الرقم 9961).

همّام باعتباره جليل القدر (90%)، فاحتمال صدور الخبر (45%)، وهو أكثر بلا شكٍّ من (33%).

الطائفة الثانية: فيمن رآه عجل الله تعالي فرجه والشريفه:

روي الصدوق (رحمه الله) في (كمال الدِّين) عن عليِّ بن عبد الله الورّاق، قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، قال: دخلت علي أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) وأنا أُريد أنْ أسأله عن الخلف )من( بعده، فقال لي مبتدئاً: «يا أحمد بن إسحاق، إنَّ الله تبارك وتعالي لم يُخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) ولا يُخليها إلي أنْ تقوم الساعة من حجَّة لله علي خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه يُنزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض».

قال: فقلت له: يا ابن رسول الله، فمن الإمام والخليفة بعدك؟

فنهض (عليه السلام) مسرعاً، فدخل البيت، ثمّ خرج وعلي عاتقه غلام كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال: «يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك علي الله عزوجل وعلي حُجَجه ما عرضت عليك ابني هذا، إنَّه سميُّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) وكنيُّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً. يا أحمد بن إسحاق، مثله في هذه الأُمَّة مثل الخضر (عليه السلام)، ومثله مثل ذي القرنين، والله ليغيبنَّ غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلَّا من ثبَّته الله عزوجل علي القول بإمامته وفقه )فيها( للدعاء بتعجيل فرجه».

فقال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي، فهل من علامة يطمئنُّ إليها قلبي؟

فنطق الغلام (عليه السلام) بلسان عربي فصيح، فقال: «أنا بقيَّة الله في أرضه،والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق».

فقال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فرحاً، فلمَّا كان من الغد عدت

ص: 78

إليه فقلت له: يا ابن رسول الله، لقد عظم سروري بما مننت )به( عليَّ، فما السُّنَّة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟

فقال: «طول الغيبة يا أحمد».

قلت: يا ابن رسول الله، وإنَّ غيبته لتطول؟

قال: «إي وربّي حتَّي يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، ولا يبقي إلَّا من أخذ الله عزوجل عهده لولا يتنا، وكتب في قلبه الإيمان، وأيَّده بروح منه. يا أحمد ابن إسحاق، هذا أمر من أمر الله، وسرٌّ من سرِّ الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في علِّيين»((1)).

وعليُّ بن عبد الله الورّاق شيخ الصدوق (رحمه الله)، وقد ترضّي عنه وترحَّم عليه في عدَّة مواضع من كُتُبه((2)).

وسعد هو ابن عبد الله الأشعري القمّي شيخ القمّيِّين ووجههم((3)).

وأحمد بن إسحاق وإنْ كان مشتركاً بين الأشعري والرازي إلَّا أنَّ الرازي ثقة((4))، والأشعري ذكر الشيخ الطوسي فيه: (أبو عليٍّ، كبير القدر، وكان من خواصِّ أبي محمّد (عليه السلام)...، وهو شيخ القمّيِّين ووافدهم)((5)).

والمعنيُّ في هذه الرواية الأشعري؛ لأنَّ الرازي لم يروِ عن الحسن العسكري (عليه السلام)، علي أنَّ الشيخ الطوسي (رحمه الله) صرَّح أنَّ الأشعري رأي الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالي فرجه والشريفه((6)).

ص: 79


1- ()1() كمال الدِّين (ص 384 و385/ باب 38/ ح 1).
2- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 13/ ص 91/ الرقم 8304).
3- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 9/ ص 77 - 90/ الرقم 5058).
4- ()4() راجع: معجم رجال الحديث (ج 2/ ص 55/ الرقم 436).
5- ()5() الفهرست (ص 70/ الرقم 78/16).
6- ()1() المصدر السابق.

وعلي هذا فالرواية تورث قيمة احتماليَّة معتدًّا بها؛ إذ في سندها ثلاث، اثنان منهم من أعاظم الرواة وأكابرهم.

وروي الطوسي (رحمه الله) في (الغيبة) عن جماعة، عن محمّد بن عليِّ بن الحسين )الصدوق(، قال: أخبرنا أبي ومحمّد بن الحسن ومحمّد بن موسي بن المتوكِّل، عن عبد الله بن جعفر الحميري، أنَّه قال: سألت محمّد بن عثمان (رضي الله عنه)، فقلت له: رأيت صاحب هذا الأمر؟ فقال: نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: «اللَّهُمَّ أنجز لي ما وعدتني».

قال محمّد بن عثمان (رضي الله عنه): ورأيته (صلوات الله عليه) متعلِّقاً بأستار الكعبة في المستجار، وهو يقول: «اللَّهُمَّ انتقم لي من أعدائك»((1)).

ونقل الصدوق (رحمه الله) في غاية الوثاقة، فأبوه نار علي علم في الورع والتقوي((2))، وابن المتوكِّل ثقة بلا ريب((3))، وابن الوليد جليل القدر ثقة((4))، والحميري كذلك((5))، وأمَّا محمّد بن عثمان العمري فهو السفير الثاني.فهذه الرواية منفردةً قد تكون موجبة للاطمئنان أو علي الأقلّ توجب مرتبة عالية من الظنِّ.

وروي الشيخ الصدوق (رحمه الله) في (كمال الدِّين) عن محمّد بن موسي بن المتوكِّل (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن إبراهيم بن مهزيار، قال: قَدِمْتُ مدينة الرسول (صلي الله عليه وآله)، فبحثت عن أخبار آل أبي محمّد الحسن بن عليٍّ

ص: 80


1- ()2() الغيبة للطوسي (ص 251/ ح 222).
2- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 12/ ص 398 - 400/ الرقم 8076).
3- ()4() راجع: معجم رجال الحديث (ج 18/ ص 299 و300/ الرقم 11878).
4- ()5() راجع: معجم رجال الحديث (ج 16/ ص 219 - 221/ الرقم 10490).
5- ()6() راجع: معجم رجال الحديث (ج 11/ ص 148 - 154/ الرقم 6766).

الأخير (عليهما السلام)، فلم أقع علي شيء منها، فرحلت منها إلي مكَّة مستبحثاً عن ذلك، فبينما أنا في الطواف إذ تراءي لي فتي أسمر اللون، رائع الحسن، جميل المخيلة، يطيل التوسُّم فيَّ، فعدت إليه مؤمِّلاً منه عرفان ما قصدت له، فلمَّا قربت منه سلَّمت، فأحسن الإجابة، ثمّ قال: من أيِّ البلاد أنت؟

قلت: رجل من أهل العراق.

قال: من أيِّ العراق؟

قلت: من الأهواز.

فقال: مرحباً بلقائك، هل تعرف بها جعفر بن حمدان الحصيني.

قلت: دُعي فأجاب.

قال: رحمة الله عليه، ما كان أطول ليله وأجزل نيله، فهل تعرف إبراهيم ابن مهزيار.

قلت: أنا إبراهيم بن مهزيار.

فعانقني مليًّا، ثمّ قال: مرحباً بك يا أبا إسحاق، ما فعلت بالعلامة التي وشجت بينك وبين أبي محمّد (عليه السلام)؟

فقلت: لعلَّك تريد الخاتم الذي آثرني الله به من الطيِّب أبي محمّد الحسن ابن عليٍّ (عليهما السلام).فقال: ما أردت سواه، فأخرجته إليه، فلمَّا نظر إليه استعبر وقبَّله، ثمّ قرأ كتابته...، ثمّ يروي القصَّة كاملة، وكيف وصل إلي لقاء الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه((1)).

وقد تركنا نقل القصَّة كاملة لطولها، وقد نقلها في البحار بتمامها((2))، وإنَّما اخترتها علي غيرها لتماميَّة سندها.

ص: 81


1- ()1() كمال الدِّين (ص 445 - 453/ باب 43/ ح 19).
2- ()2() بحار الأنوار (ج 52/ ص 32 - 37/ ح 28).
الطائفة الثالثة: ما ظهر من معجزاته عجل الله تعالي فرجه والشريفه:

ويمكن الاستدلال علي ذلك بما ظهر من معجزاته عجل الله تعالي فرجه والشريفه، فإنَّها إذا ثبتت ثبت وجوده عجل الله تعالي فرجه والشريفه في ذلك الزمان، ممَّا يعني ولادته قبلها. وقد جمع في البحار عشرات الشواهد علي ذلك، ونكتفي بذكر بعضها.

ففي (الخرائج والجرائح) عن محمّد بن شاذان بالتنعيم، قال: اجتمعت عندي خمسمائة درهم تنقص عشرون درهماً، فأتممتها من عندي، وبعثت بها إلي محمّد بن أحمد القمّي، ولم أكتب كم لي فيها، فأنفذ إليَّ كتابه: «وصلت خمسمائة درهم لك فيها عشرون درهماً»((1)).

وفي (رجال النجاشي)، قال: اجتمع مع أبي القاسم الحسين بن روح (رحمه الله) وسأله مسائل، ثمّ كاتبه بعد ذلك علي يد عليِّ بن جعفر بن الأسود يسأله أنْ يوصل له رقعة إلي الصاحب (عليه السلام) ويسأله فيها الولد، فكتب إليه: «قد دعونا الله لك بذلك، وستُرزَق ولدين ذكرين خيِّرين»، فوُلِدَ له أبو جعفر وأبو عبد الله من أُمِّ ولد. وكان أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله يقول: سمعت أبا جعفر يقول: أنا وُلِدْتُ بدعوة صاحب الأمر (عليه السلام)، ويفتخربذلك((2)).

وفي (الكافي) عن عليِّ بن محمد، عن سعد بن عبد الله، قال: إنَّ الحسن بن النضر وأبا صِدَام وجماعة تكلَّموا بعد مضيِّ أبي محمّد (عليه السلام) فيما في أيدي الوكلاء وأرادوا الفحص، فجاء الحسن بن النضر إلي أبي الصِّدَام فقال: إنّي أُريد الحجَّ، فقال له أبو صِدَام: أخِّره هذه السنة، فقال له الحسن )بن النضر(: إنّي أفزع في المنام، ولا بدَّ من الخروج، وأوصي إلي أحمد بن يعلي بن حمّاد، وأوصي للناحية بمال، وأمره أنْ لا يُخرج شيئاً إلَّا من يده إلي يده بعد ظهور.

ص: 82


1- ()3() الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 697 و698/ ح 14).
2- ()1() رجال النجاشي (ص 261/ الرقم 684).

قال: فقال الحسن: لمَّا وافيت بغداد اكتريت داراً فنزلتها، فجاءني بعض الوكلاء بثياب ودنانير وخلفها عندي، فقلت له: ما هذا؟ قال: هو ما تري، ثمّ جاءني آخر بمثلها وآخر حتَّي كبسوا الدار، ثمّ جاءني أحمد بن إسحاق بجميع ما كان معه، فتعجَّبت وبقيت متفكِّراً، فوردت عليَّ رقعة الرجل (عليه السلام): «إذا مضي من النهار كذا وكذا فاحمل ما معك»، فرحلت وحملت ما معي وفي الطريق صعلوك يقطع الطريق في ستِّين رجلاً، فاجتزت عليه وسلَّمني الله منه، فوافيت العسكر ونزلت، فوردت عليٰ رقعة أنْ «احمل ما معك»، فعبَّيته في صنان الحمّالين، فلمَّا بلغت الدهليز إذا فيه أسود قائم، فقال: أنت الحسن بن النضر؟ قلت: نعم، قال: ادخل، فدخلت الدار ودخلت بيتاً وفرَّغت صنان الحمّالين وإذا في زاوية البيت خبز كثير، فأعطي كلَّ واحد من الحمّالين رغيفين وأُخرجوا، وإذا بيت عليه ستر، فنوديت منه: «يا حسن بن النضر، احمد الله علي ما منَّ به عليك ولا تشكَّنَّ، فودَّ الشيطان أنَّك شككت»، وأخرج إليَّ ثوبين وقيل:«خذها فستحتاج إليهما»، فأخذتهما وخرجت.

قال سعد: فانصرف الحسن بن النضر، ومات في شهر رمضان وكُفِّن في الثوبين((1)).

والرواية صحيحة السند، فعليُّ بن محمّد الذي يروي عنه الكليني ثقة((2)).

وأمَّا سعد بن عبد الله الأشعري القمّي فكان وجه الشيعة ومن أجلَّتهم((3)).

والحسن بن النضر من أجلَّة إخواننا كما عبَّر عنه علماء الرجال((4)).

ص: 83


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 517 و518/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 4).
2- ()2() استظهر السيِّد الخوئي في معجم رجاله (ج 13/ ص 135 و136/ الرقم 8398) أنَّه عليُّ بن محمّد بن بندار (أبو القاسم) الثقة.
3- ()3() تقدَّم تخريجه في (ص 79)، فراجع.
4- ()4() راجع: معجم رجال الحديث (ج 6/ ص 161/ الرقم 3179).

وروي الشيخ الطوسي في (الغيبة) عن محمّد بن يعقوب، عن عليِّ بن محمّد، قال: خرج نهي عن زيارة مقابر قريش والحائر، فلمَّا كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطاني فقال له: الق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لا تزوروا مقابر قريش ، فقد أمر الخليفة أنْ يُتفقَّد كلُّ من زار، فيقبض عليه((1)).

والظاهر أنَّ زيارة مقابر قريش أُريد بها زيارة الكاظمين (عليهما السلام).

والرواية صحيحة أيضاً.

وفي الغيبة للطوسي: أخبرني الحسين بن عبيد الله، عن أبي الحسن محمّد بن أحمد بن داود القمّي (رحمه الله)، عن أبي عليٍّ )محمّد( بن همّام، قال: أنفذمحمّد بن عليٍّ الشلمغاني العزاقري إلي الشيخ الحسين بن روح يسأله أنْ يباهله وقال: أنا صاحب الرجل، وقد أُمرت بإظهار العلم، وقد أظهرته باطناً وظاهراً، فباهلني، فأنفذ إليه الشيخ (رضي الله عنه) في جواب ذلك: أيُّنا تقدَّم صاحبه فهو المخصوم، فتقدَّم العزاقري فقُتِلَ وصُلِبَ وأُخِذَ معه ابن أبي عون، وذلك في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة((2)).

والرواية صحيحة السند، والمباهلة لإثبات من هو وكيل الناحية.

وروي الصدوق (رحمه الله) في (كمال الدِّين) عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن محمّد بن الصالح، قال: كتبت أسأله الدعاء لباداشاله وقد حبسه ابن عبد العزيز، وأستأذن في جارية لي أستولدها، فخرج: «استولدها ويفعل الله ما يشاء، والمحبوس يُخلِّصه الله»، فاستولدت الجارية فولدت فماتت، وخُلّي عن المحبوس يوم خرج إليَّ التوقيع((3)).

ص: 84


1- ()5() الغيبة للطوسي (ص 284/ ح 244).
2- ()1() الغيبة للطوسي (ص 307/ ح 258).
3- ()2() كمال الدِّين (ص 489/ باب 45/ ح 12).

والرواية صحيحة ظاهراً؛ لأنَّ والد الصدوق عَلَم في الوثاقة والتقوي، وسعد يُراد به ابن عبد الله الأشعري القمّي، ومحمّد بن صالح وكيل كان من أصحاب العسكري (عليه السلام)((1)).

وهل تراه كان ينتظر توقيعاً من شخص غير الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه؟!

الطائفة الرابعة: النصُّ علي أسماء الأئمَّة (عليهما السلام):

لقد وردت جملة من الروايات التي ذُكِرَ فيها أسماء الأئمَّة (عليهما السلام)، وأنَّ الإمام الحجَّة عجل الله تعالي فرجه والشريفه هو ابن العسكري (عليه السلام).

منها: ما رواه الكليني (رحمه الله) عن عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّدالبرقي، عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، قال: «أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) وهو متَّكئ علي يد سلمان، فدخل المسجد الحرام، فجلس إذ أقبل رجل حسن الهيأة واللباس، فسلَّم علي أمير المؤمنين، فردَّ عليه السلام، فجلس، ثمّ قال: يا أمير المؤمنين، أسألك عن ثلاث مسائل إنْ أخبرتني بهنَّ علمت أنَّ القوم ركبوا من أمرك ما قَضي عليهم، وأنْ ليسوا بمأمونين في دنياهم وآخرتهم، وإنْ تكن الأُخري علمت أنَّك وهم شرع سواء.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): سَلْني عمَّا بدا لك.

قال: أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسي؟ وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال؟

فالتفت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلي الحسن، فقال: يا أبا محمّد أجبه.

قال: فأجابه الحسن (عليه السلام).

فقال الرجل: أشهد أنْ لا إله إلَّا الله ولم أزل أشهد بها، وأشهد أنَّ محمّداً

ص: 85


1- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 17/ ص 194 - 196/ الرقم 10994).

رسول الله ولم أزل أشهد بذلك، وأشهد أنَّك وصيُّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) والقائم بحجَّته - وأشار إلي أمير المؤمنين - ولم أزل أشهد بها، وأشهد أنَّك وصيُّه والقائم بحجَّته - وأشار إلي الحسن (عليه السلام) -، وأشهد أنَّ الحسين بن عليٍّ وصيُّ أخيه والقائم بحجَّته بعده، وأشهد علي عليِّ بن الحسين أنَّه القائم بأمر الحسين بعده، وأشهد علي محمّد بن عليٍّ أنَّه القائم بأمر عليِّ بن الحسين، وأشهد علي جعفر بن محمّد بأنَّه القائم بأمر محمّد، وأشهد علي موسي أنَّه القائم بأمر جعفر بن محمّد، وأشهد علي عليِّ بن موسي أنَّه القائم بأمر موسي بن جعفر، وأشهد علي محمّد بن عليٍّ أنَّه القائم بأمر عليِّ بن موسي، وأشهد علي عليِّ بن محمّد بأنَّه القائم بأمر محمّد بن عليٍّ،وأشهد علي الحسن بن عليٍّ بأنَّه القائم بأمر عليِّ بن محمّد، وأشهد علي رجل من ولد الحسن لا يُكنّي ولا يُسمّي حتَّي يظهر أمره فيملأها عدلاً كما مُلِئَت جوراً، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ثمّ قام فمضي.

فقال أمير المؤمنين: يا أبا محمّد، اتبعه فانظر أين يقصد؟

فخرج الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)، فقال: ما كان إلَّا أنْ وضع رجله خارجاً من المسجد فما دريت أين أخذ من أرض الله، فرجعت إلي أمير المؤمنين (عليه السلام) فأعلمته.

فقال: يا أبا محمّد، أتعرفه؟

قلت: الله ورسوله وأمير المؤمنين أعلم.

قال: هو الخضر (عليه السلام)»((1)).

والرواية صحيحة السند، فمن ضمن عدَّة الكافي لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي عليُّ بن إبراهيم الثقة الجليل صاحب تفسير القمّي((2)).

ص: 86


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 525 و526/ باب ما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (عليهما السلام)/ ح 1).
2- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 12/ ص 212 - 229/ الرقم 7830).

وأحمد بن محمّد البرقي ثقة بلا شكٍّ وإنْ أُشكل عليه أنَّه يُكثِر من النقل عن الضعفاء لكن ذلك لا يخدش وثاقته((1)).

وأمَّا داود بن القاسم الجعفري، فهو داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكان ثقةً جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمَّة (عليهما السلام)، شهد أبا جعفر وأبا الحسن وأبا محمّد (عليهما السلام)((2)).فسندها قصير، والطبقات الثلاث فيها اتَّسموا بجلالة القدر فضلاً عن الوثاقة.

وقال الكليني (رحمه الله): وحدَّثني محمّد بن يحيي، عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبي هاشم، مثله سواء((3)).

وهذا يعني أنَّ هناك طريقاً تامًّا آخر للبرقي في عرض العدَّة، فمحمّد بن يحيي الذي يروي عنه الكليني (رحمه الله) هو العطّار، وهو ثقة((4)).

والصفّار أيضاً ثقة جليل((5)).

وأحمد بن أبي عبد الله هو البرقي((6)).

ولكن في ذيل هذا النقل الثاني زيادة وهي: قال محمّد بن يحيي: فقلت لمحمّد بن الحسن: يا أبا جعفر، وددت أنَّ هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله، قال: فقال: لقد حدَّثني قبل الحيرة بعشر سنين.

ص: 87


1- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 3/ ص 49 - 61/ الرقم 861).
2- ()4() راجع: معجم رجال الحديث (ج 8/ ص 122 - 126/ الرقم 4428).
3- ()1() الكافي (ج 1/ص 526 و527/باب ما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (عليهما السلام)/ح 2).
4- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 19/ ص 33/ الرقم 12010).
5- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 16/ ص 263 - 265/ الرقم 10532).
6- ()4() تقدَّم تخريجه قبل قليل.

وفي ذلك شهادة أُخري علي صدق الحديث؛ لأنَّه خبر صدَّقه الواقع بعد مدَّة، إذ وُلِدَ للحسن (عليه السلام) وغاب كما جاء في الخبر.

ومنها: ما رواه الكليني عن محمّد بن يحيي ومحمّد بن عبد الله، عن عبد الله بن جعفر، عن الحسن بن ظريف وعليِّ بن محمّد، عن صالح بن أبي حمّاد، عن بكر بن صالح، عن عبد الرحمن بن سالم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «قال أبي لجابر بن عبد الله الأنصاري: إنَّ لي إليك حاجة، فمتي يخفُّ عليك أنْ أخلو بك فأسألك عنها؟فقال له جابر: أيَّ الأوقات أحببته.

فخلا به في بعض الأيّام، فقال له: يا جابر، أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أُمّي فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وما أخبرتك به أُمّي أنَّه في ذلك اللوح مكتوب.

فقال جابر: أشهد بالله أنّي دخلت علي أُمِّك فاطمة (عليها السلام) في حياة رسول الله (صلي الله عليه وآله) فهنَّيتها بولادة الحسين، ورأيت في يديها لوحاً أخضر ظننت أنَّه من زمرُّد، ورأيت فيه كتاباً أبيض شبه لون الشمس، فقلت لها: بأبي وأُمّي يا بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله)، ما هذا اللوح؟

فقالت: هذا لوح أهداه الله إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابنيَّ واسم الأوصياء من ولدي، وأعطانيه أبي ليُبشِّرني بذلك.

قال جابر: فأعطتنيه أُمُّك فاطمة (عليها السلام)، فقرأته واستنسخته.

فقال له أبي: فهل لك يا جابر أنْ تعرضه عليَّ؟

قال: نعم، فمشي معه أبي إلي منزل جابر، فأخرج صحيفة من رقٍّ.

فقال: يا جابر، انظر في كتابك لأقرأ )أنا( عليك، فنظر جابر في نسخته، فقرأه أبي، فما خالف حرف حرفاً.

ص: 88

فقال جابر: فأشهد بالله أنّي هكذا رأيته في اللوح مكتوباً:

«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِمُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَنُورِهِ وَسَفِيرِهِ وَحِجَابِهِ وَدَلِيلِهِ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

عَظِّمْ يَا مُحَمَّدُ أَسْمَائِي، وَاشْكُرْ نَعْمَائِي، وَلَا تَجْحَدْ آلَائِي، إِنِّي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، قَاصِمُ الْجَبَّارِينَ، وَمُدِيلُ المَظْلُومِينَ، وَدَيَّانُ الدِّينِ.

إِنِّي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، فَمَنْ رَجَا غَيْرَ فَضْلِي أَوْ خَافَ غَيْرَ عَدْلِيعَذَّبْتُهُ عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدْ، وَعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ.

إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ نَبِيًّا فَأُكْمِلَتْ أَيَّامُهُ وَانْقَضَتْ مُدَّتُهُ إِلَّا جَعَلْتُ لَهُ وَصِيًّا، وَإِنِّي فَضَّلْتُكَ عَلَي الْأَنْبِيَاءِ، وَفَضَّلْتُ وَصِيَّكَ عَلَي الْأَوْصِيَاءِ، وَأَكْرَمْتُكَ بِشِبْلَيْكَ وَسِبْطَيْكَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ، فَجَعَلْتُ حَسَناً مَعْدِنَ عِلْمِي بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ أَبِيهِ.

وَجَعَلْتُ حُسَيْناً خَازِنَ وَحْيِي، وَأَكْرَمْتُهُ بِالشَّهَادَةِ، وَخَتَمْتُ لَهُ بِالسَّعَادَةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مَنِ اسْتُشْهِدَ، وَأَرْفَعُ الشُّهَدَاءِ دَرَجَةً، جَعَلْتُ كَلِمَتِيَ التَّامَّةَ مَعَهُ، وَحُجَّتِيَ الْبَالِغَةَ عِنْدَهُ، بِعِتْرَتِهِ أُثِيبُ وَأُعَاقِبُ.

أَوَّلُهُمْ عَلِيٌّ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ، وَزَيْنُ أَوْلِيَائِيَ المَاضِينَ.

وَابْنُهُ شِبْهُ جَدِّهِ المَحْمُودِ مُحَمَّدٌ، الْبَاقِرُ عِلْمِي، وَالمَعْدِنُ لِحِكْمَتِي.

سَيَهْلِكُ المُرْتَابُونَ فِي جَعْفَرٍ، الرَّادُّ عَلَيْهِ كَالرَّادِّ عَلَيَّ، حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأُكْرِمَنَّ مَثْوَي جَعْفَرٍ، وَلَأَسُرَّنَّهُ فِي أَشْيَاعِهِ وَأَنْصَارِهِ وَأَوْلِيَائِهِ.

أُتِيحَتْ بَعْدَهُ مُوسَي فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ حِنْدِسٌ؛ لِأَنَّ خَيْطَ فَرْضِي لَا يَنْقَطِعُ، وَحُجَّتِي لَا تَخْفَي، وَأَنَّ أَوْلِيَائِي يُسْقَوْنَ بِالْكَأْسِ الْأَوْفَي، مَنْ جَحَدَ وَاحِداً مِنْهُمْ فَقَدْ جَحَدَ نِعْمَتِي، وَمَنْ غَيَّرَ آيَةً مِنْ كِتَابِي فَقَدِ افْتَرَي عَلَيَّ.

وَيْلٌ لِلْمُفْتَرِينَ الْجَاحِدِينَ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ مُوسَي عَبْدِي وَحَبِيبِي وَخِيَرَتِي فِي عَلِيٍّ وَلِيِّي وَنَاصِرِي، وَمَنْ أَضَعُ عَلَيْهِ أَعْبَاءَ النُّبُوَّةِ، وَأَمْتَحِنُهُ بِالِاضْطِلَاعِ بِهَا،

ص: 89

يَقْتُلُهُ عِفْرِيتٌ مُسْتَكْبِرٌ، يُدْفَنُ فِي المَدِينَةِ الَّتِي بَنَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ إِلَي جَنْبِ شَرِّ خَلْقِي.

حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَسُرَّنَّهُ بِمُحَمَّدٍ ابْنِهِ، وَخَلِيفَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَوَارِثِ عِلْمِهِ، فَهُوَ مَعْدِنُ عِلْمِي، وَمَوْضِعُ سِرِّي، وَحُجَّتِي عَلَي خَلْقِي، لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ بِهِ إِلَّا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ، وَشَفَّعْتُهُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهُمْ قَدِاسْتَوْجَبُوا النَّارَ.

وَأَخْتِمُ بِالسَّعَادَةِ لِابْنِهِ عَلِيٍّ وَلِيِّي وَنَاصِرِي، وَالشَّاهِدِ فِي خَلْقِي، وَأَمِينِي عَلَي وَحْيِي.

أُخْرِجُ مِنْهُ الدَّاعِيَ إِلَي سَبِيلي، وَالْخَازِنَ لِعِلْمِيَ الْحَسَنَ.

وَأُكْمِلُ ذَلِكَ بِابْنِهِ (م ح م د) رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، عَلَيْهِ كَمَالُ مُوسَي، وَبَهَاءُ عِيسَي، وَصَبْرُ أَيُّوبَ، فَيُذَلُّ أَوْلِيَائِي فِي زَمَانِهِ، وَتُتَهَادَي رُؤُوسُهُمْ كَمَا تُتَهَادَي رُؤُوسُ التُّرْكِ وَالدَّيْلَمِ، فَيُقْتَلُونَ وَيُحْرَقُونَ وَيَكُونُونَ خَائِفِينَ مَرْعُوبِينَ وَجِلِينَ تُصْبَغُ الْأَرْضُ بِدِمَائِهِمْ وَيَفْشُو الْوَيْلُ وَالرَّنَّةُ فِي نِسَائِهِمْ، أُولَئِكَ أَوْلِيَائِي حَقًّا، بِهِمْ أَدْفَعُ كُلَّ فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ حِنْدِسٍ، وَبِهِمْ أَكْشِفُ الزَّلَازِلَ وَأَدْفَعُ الْآصَارَ وَالْأَغْلَالَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ».

قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلَّا هذا الحديث لكفاك، فصنه إلَّا عن أهله((1)).

والرواية لا مشكلة في سندها إلَّا ما في بكر بن صالح، لكن ضعفه لا يمنع من الاستدلال بالرواية، فإنَّها تامَّة السند فيمن روي عنه، وأمَّا بالنسبة لبكر فقد ورد في أسانيد كامل الزيارة، فعلي المبني القائل بتوثيق كلِّ من ورد في أسانيده يمكن الالتزام بوثاقته، لكن ذلك غير تامٍّ؛ لأنَّ نفس المبني غير تامٍّ أوَّلاً، ولأنَّه

ص: 90


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 527 و528/ باب ما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (عليهما السلام)/ ح 3).

قد نُصَّ علي تضعيفه حيث إنَّه ليس ببعيد أنْ يُراد منه بكر بن صالح الرازي كما ذكر السيِّد الخوئي (رضي الله ) في معجم رجاله((1))، وقدضعَّفه النجاشي((2)).

وأمَّا كيفيَّة دفع منافاة ضعف الراوي مع الاستدلال بالرواية، فإنَّ الرواية قد نقلها بكر في زمان الرضا (عليه السلام) أو في زمان أبيه (عليه السلام)؛ إذ عدَّه الشيخ الطوسي من أصحاب الرضا (عليه السلام)، وعدَّه النجاشي من أصحاب أبي الحسن موسي(عليه السلام). وهذا يعني أنَّه نصَّ علي أسماء الأئمَّة ممَّن لم يولدوا بعد، فإذا لم يكن الرجل موضع اعتماد في بقيَّة إخباراته، فهذا الخبر كان الواقع قد أثبت صحَّته حيث وُلِدَ الجواد والهادي والعسكري (عليهما السلام) بعد هذا الإخبار وطبقاً لما أخبر، ممَّا يعني أنَّ الخبر لم يكن من عنده جزماً، ولا من جهة قد افترت علي الله كذباً في ذلك.

ودلالة الخبر تامَّة علي أنَّ الإمام محمّد عجل الله تعالي فرجه والشريفه ابن للإمام الحسن العسكري (عليه السلام).

وقد روي هذا المضمون من قصَّة جابر وحديث الصحيفة التي فيها نصٌّ علي أسماء الأئمَّة (عليهما السلام) بألفاظ أُخري وببعض التفاصيل المختلفة برواية أبي نضرة في (كمال الدِّين) و(عيون أخبار الرضا (عليه السلام))((3)).

ورواها جابر بن يزيد الجعفي، لكنَّها مختصرة جدًّا؛ إذ فيها: دخلت علي فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله) وقُدّامها لوح يكاد ضوؤه يغشي الأبصار، وفيه اثنا عشر اسماً...، قال جابر: فرأيت فيه محمّد محمّد محمّد - في ثلاثة مواضع -، وعليًّا عليًّا عليًّا عليًّا - في أربعة مواضع -((4)).

وهناك روايات أُخري تركناها للاختصار.

ص: 91


1- ()2() معجم رجال الحديث (ج 4/ ص 251 - 255/ الرقم 1858).
2- ()1() رجال النجاشي (ص 109/ الرقم 276).
3- ()2() كمال الدِّين (ص 308/باب 28)؛ عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ص 48 - 50/ح 2).
4- ()3() عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 51 و52/ ح 5).

الطائفة الخامسة: نصُّ آبائه (عليهما السلام) علي أنَّه عجل الله تعالي فرجه والشريفه ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):

وممّا يمكن أنْ يُستَدلَّ به علي أنَّه عجل الله تعالي فرجه والشريفه قد وُلِدَ، جملةٌ من الروايات التي نصَّت علي أنَّه ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، حيث إنَّه لمَّا تُوفّي فلا بدَّ أنْ يكون قد وُلِدَ عجل الله تعالي فرجه والشريفه في حياته أو بعدها بقليل، وإلَّا كيف يقال بنسبته إلي أبيه ويرحل والده عن الدنيا وتمرُّ سنين قبل أنْ يُولَد؟!

ومن هذه الروايات ما روي عن عليِّ بن أحمد بن محمّد الدقّاق (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن أبي عبد الله الكوفي، عن موسي بن عمران النخعي، عن عمِّه الحسين بن يزيد النوفلي، عن المفضَّل بن عمر، قال: دخلت علي سيِّدي جعفر بن محمّد (عليهما السلام)، فقلت: يا سيِّدي، لو عهدت إلينا في الخلف من بعدك؟

فقال لي: «يا مفضَّل، الإمام من بعدي ابني موسي، والخلف المأمول المنتظر (م ح م د) ابن الحسن بن عليِّ بن محمّد )بن( عليِّ بن موسي»((1)).

وعن الصادق (عليه السلام): «الخامس من ولد السابع»، وهي رواية ابن أبي يعفور((2)).

وعنه (عليه السلام): «السادس من ولدي، وهو الثاني عشر من الأئمَّة الهداة»، وهي رواية الحميري((3)).وعنه (عليه السلام): «الخامس من ولد ابني موسي، ذلك ابن سيِّدة الإماء»((4)).

وعن الكاظم (عليه السلام): «إذا فُقِدَ الخامس من ولد السابع»، وهي رواية عليِّ ابن جعفر((5)).

ص: 92


1- ()1() كمال الدِّين (ص 334/ باب 33/ ح 4).
2- ()2() راجع: كمال الدِّين (ص 338/ باب 33/ ح 12).
3- ()3() راجع: كمال الدِّين (ص 342/ باب 33/ ح 23).
4- ()1() راجع: كمال الدِّين (ص 345 و346/ باب 33/ ح 31).
5- ()2() راجع: علل الشرائع (ج 1/ ص 244 و245/ باب 179/ ح 4).

وعن محمّد بن عليٍّ، قال: حدَّثنا عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس العطّار، قال: حدَّثنا عليُّ بن محمّد بن قتيبة النيسابوري، قال: حدَّثنا حمدان بن سليمان، قال: حدَّثنا الصقر بن أبي دلف، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليِّ بن موسي الرضا (عليه السلام) يقول: «الإمام بعدي ابني عليٍّ، أمره أمري وقوله قولي وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن أمره أمر أبيه وقوله قول أبيه وطاعته طاعة أبيه»، ثمّ سكت.

فقلت له: يا بن رسول الله، فمن الإمام بعد الحسن؟

فبكي (عليه السلام) بكاءً شديداً، ثمّ قال: «إنَّ بعد الحسن ابنه القائم بالحقِّ المنتظر...» الخبر((1)).

وفي (كمال الدِّين): حدَّثنا محمّد بن الحسن (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، قال: حدَّثنا أبو جعفر محمّد بن أحمد العلوي، عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) يقول: «الخلف من بعدي ابني الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟».

فقلت: ولِمَ جعلني الله فداك؟

فقال: «لأنَّكم لا ترون شخصه، ولا يحلُّ لكم ذكره باسمه».

قلت: فكيف نذكره؟قال: «قولوا: الحجَّة من آل محمّد (صلي الله عليه وآله)»((2)).

وفيه أيضاً: حدَّثنا محمّد بن عليِّ بن بشّار القزويني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا أبو الفرج المظفَّر بن أحمد، قال: حدَّثنا محمّد بن جعفر الكوفي، قال: حدَّثنا محمّد بن إسماعيل البرمكي، قال: حدَّثنا الحسن بن محمّد بن صالح البزّاز، قال: سمعت

ص: 93


1- ()3() كفاية الأثر (ص 283 و284).
2- ()1() كمال الدِّين (ص 381/ باب 37/ ح 5).

الحسن بن عليٍّ العسكري (عليهما السلام) يقول: «إنَّ ابني هو القائم من بعدي، وهو الذي يجري فيه سُنَن الأنبياء (عليهما السلام) بالتعمير والغيبة حتَّي تقسو القلوب لطول الأمد، فلا يثبت علي القول به إلَّا من كتب الله عزوجل في قلبه الإيمان وأيَّده بروح منه»((1)).

الطائفة السادسة: إنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة:

تعدَّدت الروايات التي نصَّت علي أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله تعالي، وبما أنَّه بعد رحيل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لا نعرف حجَّة غير الإمام الثاني عشر عجل الله تعالي فرجه والشريفه، فهي دالَّة علي أنَّه كان موجوداً بعد رحيل والده (عليه السلام).

ومن هذه الروايات ما رواه الكليني (رحمه الله) عن عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسي، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن أبي العلاء، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: «لا»، قلت: يكون إمامان؟ قال: «لا، إلَّا وأحدهما صامت»((2)).

والرواية صحيحة السند، وقال المجلسي (رحمه الله) في (مرآة العقول): إنَّها حسنة((3)).

وما رواه (رحمه الله) عن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، عن منصور بن يونس وسعدان بن مسلم، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «إنَّ الأرض لا تخلو إلَّا وفيها إمام، كيما إنْ زاد المؤمنون شيئاً ردَّهم، وإنْ نقصوا شيئاً أتمَّه لهم»((4)).

ص: 94


1- ()2() كمال الدِّين (ص 524/ باب 46/ ح 4).
2- ()3() الكافي (ج 1/ ص 178/ باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة/ ح 1).
3- ()4() راجع: مرآة العقول (ج 2/ شرح ص 294).
4- ()1() الكافي (ج 1/ ص 178/ باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة/ ح 2).

والرواية معتبرة، وإبراهيم بن هاشم يوجب وصفها بالحسن((1))، وإسحاق ابن عمّار يجعلها موثَّقة((2)).

وقد جمع الكليني (رحمه الله) في الكافي في هذا الباب (13) رواية، والرواية الخامسة منها وإنْ كانت صحيحة السند لكن دلالتها غير واضحة، لكن الأمر إذا كان مرتبطاً بحساب الاحتمال فهي نافعة في محلِّ كلامنا.

وإنما قلنا إنها غير واضحة الدلالة لأن متنها هو: «إنَّ الله لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يُعرَف الحقُّ من الباطل»((3)).

فلفظ (عالم) أعمُّ من الإمام (عليه السلام)، لكن يمكن تجاوز هذا الإشكال الدلالي من خلال قرينتين:

الأُولي: أنَّ العالم يُستَعمل كثيراً في الإمام (عليه السلام).

والثانية: التعليل بأنَّه «لولا ذلك لم يُعرَف الحقُّ من الباطل» الذي يعني أنَّ العالم المذكور يعرف الحقَّ من الباطل، وهو علي الإطلاق لا يتحقَّق إلَّا بالإمام المعصوم (عليه السلام).

والقرينة الأُولي قابلة للمناقشة؛ لأنَّ كثرة استعمال اللفظ في معني لا تستوجب ظهوره فيه إذا ورد بغير قرينة، إلَّا إذا استوجب ذلك الوضعالتعيُّني، أي أنْ يصبح المعني المستعمل فيه اللفظ معني حقيقيًّا له. هذا أوَّلاً.

وثانياً: إذا هُجِرَ استعماله في المعني الأوَّل فيصبح كالمنقول، أو من المنقول الذي وُضِعَ لمعني جديد وترك الاستعمال فيما وُضِعَ له أوَّلاً.

نعم، هذه القرينة تنفع في نفي البعد عن إرادة الإمام المعصوم (عليه السلام) من لفظ (العالم) فيما إذا توفَّرت قرينة ودلالة علي أنَّ المراد هو الإمام (عليه السلام).

ص: 95


1- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 1/ ص 289 - 322/ الرقم 332).
2- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 3/ ص 212 - 224/ الرقم 1163 - 1166).
3- ()4() الكافي (ج 1/ ص 178/ باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة/ ح 5).

وقد ورد في بعضها أنَّها لا تخلو من إمام، وهي في المجموع تامَّة الدلالة. نعم، بعضها ضعيف السند، لكن الذي يبحث عن التواتر لا يمنعه ضعف السند. نعم، ضعف السند يجعل عدد الروايات التي لا بدَّ من توفُّرها أكبر.

ومن تلك الروايات ما دلَّ علي أنَّه لو لم يبقَ في الأرض إلَّا رجلان لكان أحدهما الحجَّة.

وقد ذكر الكليني (رحمه الله) خمس روايات تحت هذا العنوان((1))، وهي وإنْ كانت غير ناهضة لضعفها السندي، إلَّا أنَّها نافعة في تجميع القرائن الاحتماليَّة.

والرواية الأُولي والثانية والرابعة ضعيفة السند، والثالثة مرسَلة، والخامسة مجهولة.

وكان متن الأُولي: «لو لم يبقَ في الأرض إلّاَ اثنان لكان أحدهما الحجَّة».

والثانية: «لو بقي اثنان لكان أحدهما الحجَّة علي صاحبه».وفي الثالثة: «لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام»، وقال: «إنَّ آخر من يموت الإمام؛ لئلَّا يحتجّ أحد علي الله عزوجل أنَّه تركه بغير حجَّة لله عليه».

وقريب من الأُولي والثانية متن الرابعة والخامسة.

الطائفة السابعة: ما دلَّ علي ضرورة معرفة إمام الزمان (عليه السلام):

هناك العديد من الروايات التي دلَّت علي ضرورة معرفة إمام الزمان (عليه السلام)، وهذا يستدعي وجوده، ونحن لا نعرف أحداً سواه منذ رحيل الحسن العسكري (عليه السلام).

ومن هذه الروايات: صحيحة زرارة، فقد روي الكليني (رحمه الله) عن محمّد بن يحيي، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة علي جميع الخلق؟

ص: 96


1- ()1() الكافي (ج 1/ص 179 و180/باب (أنَّه لو لم يبقَ في الأرض إلَّا رجلان لكان أحدهما الحجَّة).

فقال: «إنَّ الله عزوجل بعث محمّداً (صلي الله عليه وآله) إلي الناس أجمعين رسولاً وحجَّةً لله علي جميع خلقه في أرضه، فمن آمن بالله وبمحمّد رسول الله واتَّبعه وصدَّقه فإنَّ معرفة الإمام منّا واجبة عليه، ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتَّبعه ولم يُصدِّقه ويعرف حقَّهما فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقَّهما؟!».

قال: قلت: فما تقول فيمن يؤمن بالله ورسوله ويُصدِّق رسوله في جميع ما أنزل الله، يجب علي أُولئك حقُّ معرفتكم؟

قال: «نعم، أليس هؤلاء يعرفون فلاناً وفلاناً؟».

قلت: بلي.

قال: «أتري أنَّ الله هو الذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاء؟ والله ماأوقع ذلك في قلوبهم إلَّا الشيطان، لا والله ما ألهم المؤمنين حقَّنا إلَّا الله عزوجل»((1)).

ومنها صحيحة محمّد بن مسلم، فقد رواها الكليني (رحمه الله) عن محمّد بن يحيي، عن محمّد بن الحسين، عن صفوان بن يحيي، عن العلاء بن رزين، عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «كلُّ من دان الله عزوجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضالٌّ متحيِّر، والله شانئ لأعماله، ومَثَله كمَثَل شاة ضلَّت عن راعيها وقطيعها، فهجمت ذاهبة وجائية يومها، فلمَّا جنَّها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها، فحنَّت إليها واغترَّت بها، فباتت معها في مربضها، فلمَّا أنْ ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها، فهجمت متحيِّرة تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بغنم مع راعيها، فحنَّت إليها واغترَّت بها، فصاح بها الراعي: الحقي براعيكِ وقطيعكِ، فأنت تائهة متحيِّرة عن راعيكِ وقطيعكِ، فهجمت ذعرة متحيِّرة تائهة، لا راعي لها

ص: 97


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 180 و181/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح 3).

يُرشِدها إلي مرعاها أو يردُّها، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها، فأكلها، وكذلك والله يا محمّد من أصبح من هذه الأُمَّة لا إمام له من الله عزوجل ظاهر عادل، أصبح ضالًّا تائهاً، وإنْ مات علي هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق...» الخبر»((1)).

وهذه الرواية وإن أمكن التشكيك في إمكان الاستناد إليها من جهة أنَّها مثَّلت للذي لا يعرف إمامه بالشاة التائهة التي يتربَّص الذئب بها، والمؤمن في زمن الغيبة هذا حاله، لأنَّه لا يتمكَّن من الوصول إلي إمامه.وقد يجعل ذلك قرينة علي إرادة خصوص زمن الحضور حيث يمكن التواصل مع الإمام (عليه السلام)، إلَّا أنَّ الرواية لا تخلو من دلالة احتماليَّة وبمستوي جيِّد عن ضرورة وجود إمام في كلِّ زمان.

وقد نقل الكليني في هذا الباب((2)) (14) رواية بعضها لا دلالة لها علي المدَّعي كالرواية الأخيرة، وهي ما رواه بسند ضعيف فيه معلّي بن محمّد((3))، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «قال أبو جعفر (عليه السلام): دخل أبو عبد الله الجدلي علي أمير المؤمنين، فقال (عليه السلام): يا أبا عبد الله، ألَا أُخبرك بقول الله عزوجل: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ 89 وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 90) )النمل: 89 و90(؟

قال: بلي يا أمير المؤمنين، جُعلت فداك.

فقال: الحسنة معرفه الولاية وحبُّنا أهل البيت، والسيِّئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت، ثمّ قرأ عليه هذه الآية»((4)).

ص: 98


1- ()2() الكافي (ج 1/ ص 183 و184/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح 7).
2- ()1() باب معرفة الإمام (عليه السلام) والردِّ إليه.
3- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 19/ ص 279 - 282/ الرقم 12536 و12537).
4- ()3() الكافي (ج 1/ ص 185/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح 14).

ولا دلالة فيها علي وجود الإمام الثاني عشر المستقبلي.

والرواية التاسعة كذلك.

والرواية الثامنة كذلك؛ لأنَّه ورد فيها: «من أصبح من هذه الأُمَّة لا إمام له من الله عزوجل ظاهر عادل، أصبح ضالًّا تائهاً...»((1))، وقد قُيِّد الإمام بصفة (الظاهر)، وهذا ما لا ينطبق علي الإمام الثاني عشر في زمنالغيبة.

والرواية السابعة؛ إذ جاء فيها: «أبي الله أنْ يجري الأشياء إلَّا بأسباب، فجعل لكلِّ شيء سبباً، وجعل لكلِّ سبب شرحاً، وجعل لكلِّ شرح علماً، وجعل لكلِّ علم باباً ناطقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ذاك رسول الله (صلي الله عليه وآله) ونحن »((2)).

ولا دلالة فيها، مضافاً إلي أنَّها مرسَلة.

والسادسة أيضاً لم يأتِ فيها إلَّا الأمر باتِّباع الرسول (صلي الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهما السلام)، والإشارة إلي وصل طاعة وليِّ الأمر بطاعة الرسول.

بل والأُولي، وفيها: جُعلت فداك، فما معرفة الله؟

قال: «تصديق الله عزوجل وتصديق رسوله (صلي الله عليه وآله) وموالاة عليٍّ (عليه السلام) والائتمام به وبأئمَّة الهدي (عليهما السلام)، والبراءة إلي الله عزوجل من عدوِّهم، هكذا يُعرَف الله عزوجل»((3)).

والخامسة لم تتحدَّث إلَّا عن الأئمَّة الخمسة الأوائل.

الطائفة الثامنة: ما نصَّ علي غيبته عجل الله تعالي فرجه والشريفه سنة (260 ه-):

روي الصدوق (رحمه الله) عن أبيه ومحمّد بن الحسن (رضي الله عنهما)، قالا: حدَّثنا سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميري، قالا: حدَّثنا أحمد بن الحسين بن عمر

ص: 99


1- ()4() الكافي (ج 1/ ص 183 و184/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح 8).
2- ()1() الكافي (ج 1/ ص 183/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح 7).
3- ()2() الكافي (ج 1/ ص 180/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح 1).

بن يزيد، عن الحسين بن الربيع المدائني، قال: حدَّثنا محمّد بن إسحاق، عن أسيد بن ثعلبة، عن أُمِّ هانئ، قالت: لقيت أبا جعفر محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهما السلام)، فسألته عن هذه الآية: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ 15 الْجَوارِ الْكُنَّسِ 16) )التكوير: 15 و16(؟فقال: «إمام يخنس في زمانه عند انقضاء من علمه سنة ستِّين ومائتين، ثمّ يبدو كالشهاب الوقّاد في ظلمة الليل، فإنْ أدركتِ ذلك قرَّت عيناكِ»((1)).

ولا شكَّ في وثاقة عليِّ بن بابويه والد الصدوق وابن الوليد، بل وجلالة قدرهما، وكذا سعد والحميري.

كما نصَّ علماء الرجال علي وثاقة أحمد بن الحسين بن عمر بن يزيد((2)).

والحسين بن الربيع لم يُوثَّق((3))، ولا يضرُّ عدم توثيقه؛ لأنَّ الحسين بن الربيع في طبقة قبل الغيبة، ووثاقة من نقل عنه ولو بواسطة في هذه الرواية لا شكَّ فيها، وهذا يعني أنَّ احتمال الكذب المعتدَّ به لو كان فهو من الحسين بن الربيع أو من كان قبله في السند، ممَّا يعني أنَّ أحمد بن الحسين قد أخذ منه قبل زمان الغيبة، ونفس إخباره بهذه السنة بالدقَّة والتي حصلت فيها الغيبة قبل حصول الغيبة دليل علي صحَّة إخباره ونفي احتمال الكذب والوضع منه هنا وإنْ لم تثبت وثاقته.

وبهذا تُعتَبر الرواية من الأدلَّة الصحيحة علي غيبته عجل الله تعالي فرجه والشريفه، ولازم ذلك ولادته أوَّلاً.

وقد رويت بطريق آخر إلي محمّد بن إسحاق، وهو: سُلامة بن محمّد، عن

ص: 100


1- ()1() كمال الدِّين (ص 324 و325/ باب 32/ ح 1).
2- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 2/ ص 107/ الرقم 532).
3- ()3() راجع: مستدركات علم رجال الحديث (ج 3/ ص 128/ الرم 4344).

أحمد بن داود، عن أحمد بن الحسن، عن عمران بن الحجّاج،عن ابن أبي نجران، عن ابن أبي عمير، عن محمّد بن إسحاق((1)).

مع اختلاف قليل في المتن.

ورويت بطريق ثالث، فقد رواها الكليني (رحمه الله) عن عليِّ بن محمّد، عن جعفر بن محمّد، عن موسي بن جعفر البغدادي، عن وهب بن شاذان، عن الحسين بن الربيع، عن محمّد بن إسحاق، مع زيادة: «كالشهاب يتوقَّد في الليلة الظلماء»((2)).

وكِلَا الطريقين فيهما ضعف، فالثالث مثلاً فيه موسي بن جعفر البغدادي((3))، ووهب بن شاذان((4))، مضافاً إلي الحسين بن الربيع((5))، ولم يرد فيهم توثيق، فهم مجاهيل. لكن الطريق الثاني يُضعِّف كون الواضع - لو كان ثَمَّة وضع - هو الحسين بن الربيع((6)).

وكيف كان، فالرواية لا تختلف عن الصحيحة السند، فمثل هذا الضعف في الراوي لا يُضعِّف مثل هذه الرواية.

ص: 101


1- ()1() راجع: الغيبة للنعماني (ص 151/ باب 10/ ح 6).
2- ()2() الكافي (ج 1/ ص 341/ باب في الغيبة/ ح 22).
3- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 20/ ص 37 و38/ الرقم 12771).
4- ()4() راجع: معجم رجال الحديث (ج 20/ ص 227/ الرقم 13216).
5- ()5() راجع: معجم رجال الحديث (ج 5/ ص 317 و318/ الرقم 2824 و2825).
6- ()6() وهناك طريق رابع للصدوق (رحمه الله) لم يذكره المصنِّف وهو: (عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا أبو عمرو الكشّي، عن محمّد بن مسعود، عن نصر بن الصبّاح، عن جعفر بن سهيل، قال: حدَّثني أبو عبد الله أخو أبي عليٍّ الكابلي، عن القابوسي، عن نصر بن السندي، عن الخليل بن عمرو، عن عليِّ بن الحسين الفزاري، عن إبراهيم بن عطيَّة، عن أُمِّ هانئ الثقفيَّة). (راجع: كمال الدِّين: ص 330/ باب 32/ ح 14).

الطائفة التاسعة: الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام من الأئمَّة (عليهما السلام):

ويمكن الاستدلال بالروايات التي نصَّت علي أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام، وظاهرها يشمل الإمام العسكري (عليه السلام)، فلا بدَّ أنْ يكون الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه موجوداً حي

لكن هذه الروايات ليست قطعيَّة الدلالة؛ لأنَّ دلالتها في حدود الظهور، ليشمل مؤدّاها الإمام العسكري (عليه السلام).

مضافاً إلي أنَّ الموجود منها في الكافي تشترك في الضعف السندي، لوجود معلّي بن محمّد في سندها جميعاً، وهو البصري، وهو مضطرب الحديث والمذهب((1)).

مضافاً إلي أنَّ إحداها مرسَلة فوق ذلك، والثانية والثالثة فيهما محمّد بن جمهور الذي نصَّ الرجاليُّون علي ضعفه في الحديث وفساد مذهبه، وقيل فيه أشياء الله أعلم بها من عظمها، هكذا قالوا((2)).

مضافاً إلي ضعف في دلالة إحداها.

والروايات هي:

1 - الحسين بن محمّد، عن معلّي بن محمّد، عن الحسين بن عليٍّ الوشّاء، عن أحمد بن عمر الحلّال أو غيره، عن الرضا (عليه السلام)، قال: قلت له: إنَّهم يحاجُّونا يقولون: إنَّ الامام لا يُغسِّله إلَّا الإمام.

قال: فقال: «ما يُدريهم من غسَّله؟ فما قلت لهم؟».

قال: فقلت جُعلت فداك، قلت لهم: إنْ قال مولاي: إنَّه غسَّله تحت عرش ربّي فقد صدق، وإنْ قال: غسَّله في تخوم الأرض فقد صدق.

ص: 102


1- ()1() تمَّ تخريجه في (ص 98)، فراجع.
2- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 16/ ص 189 - 192/ الرقم 10439).

قال: «لا، هكذا».)قال( فقلت: فما أقول لهم؟

قال: «قل لهم: إنّي غسَّلته».

فقلت: أقول لهم: إنَّك غسَّلته؟

فقال: «نعم»((1)).

وظاهر كلام الإمام (عليه السلام) أنَّه أقرَّ ما كانوا قد اعتقدوا به من أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا الإمام، وكأنَّ إشكال المستشكلين أنَّ الإمام الكاظم (عليه السلام) قد تُوفّي في السجن ببغداد ولم يكن قد حضره ولده الإمام الرضا (عليه السلام)، فكيف ينسجم ذلك مع ما كانوا قد بنوا عليه من أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا الإمام؟

وإرسال هذه الرواية من جهة أنَّ الوشّاء نقل إمَّا عن الحلّال أو آخر غير معروف لنا، فهي مرسَلة.

2 - الحسين بن محمّد، عن معلّي بن محمّد، عن محمّد بن جمهور، قال: حدَّثنا أبو معمّر، قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن الإمام يُغسِّله الإمام؟

قال: «سُنَّة موسي بن عمران (عليه السلام)»((2)).

وكأنَّه (عليه السلام) يشير إلي تولّي وصيِّ موسي (عليه السلام) عمليَّة تغسيله وتجهيزه(عليه السلام). وحين قال (عليه السلام): «سُنَّة موسي بن عمران (عليه السلام)) فإنَّه أشار إلي كونها قاعدة في تجهيز الأنبياء والأئمَّة (عليهما السلام)، فتنطبق علي الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فلا بدَّ أنْ يكون وصيُّه قد جهَّزه، ووصيُّه ليس إلَّا الحجَّة عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

وأبو معمّر مجهول((3)).

ص: 103


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 384 و385/ باب أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام.../ ح 1).
2- ()2() الكافي (ج 1/ ص 385/ باب أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام.../ ح 2).
3- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 23/ ص 61/ الرقم 14860).

3 - الحسين بن محمّد، عن معلّي بن محمّد، عن محمّد بن جمهور،عن يونس، عن طلحة، قال: قلت للرضا (عليه السلام): إنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا الإمام؟

فقال: «أمَا تدرون من حضر لغُسله، قد حضره خير ممَّن غاب عنه، الذين حضروا يوسف في الجُبِّ حين غاب عنه أبواه وأهل بيته»((1)).

وطلحة مجهول.

وفي هذه الرواية مشكلة دلاليَّة؛ إذ إنَّ ظاهر الرواية أنَّ الإمام (عليه السلام) دفع إشكالهم بأنَّه لم يحضر تغسيل والده، وأنَّ ذلك يُشَكِّل نقضاً لقاعدة الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام، فأخبرهم بأنَّ الذي حضره هو خير ممَّن غاب عنه، أي إنَّ الحاضر كان آخرين غير الإمام الرضا (عليه السلام).

وعلي هذا يمكن أنْ يقال: إنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مثلاً قد لا يكون من حضره ولده، فلا ضرورة علي وجود ابن له ليصحَّ أنَّه غسَّله إمام.

ومثل هذه الرواية ما روي عن معاوية بن حكيم، عن إبراهيم بن أبي سماك، قال: كتبت إلي أبي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّا قد روينا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا الإمام، وقد بلغنا هذا الحديث، فما تقول فيه؟

فكتب إليَّ: «إنَّ الذي بلغك هو الحقُّ».

قال: فدخلت عليه بعد ذلك، فقلت له: أبوك من غسَّله ومن وليُّه؟

فقال: «لعلَّ الذين حضروه أفضل من الذين تخلَّفوا عنه».

قلت: ومن هم؟

قال: «حضروه الذين حضروا يوسف، ملائكة الله ورحمته»((2)).

وهذه الرواية أوضح دلالةً علي العدم.

ص: 104


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 385/ باب أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام.../ ح 3).
2- ()2() مختصر بصائر الدرجات (ص 13).

ولكن هناك أخبار كثيرة دلَّت علي حضور الإمام الرضا (عليه السلام) عند تغسيل والده، قال المجلسي (رحمه الله): (لعلَّ الخبرين محمولان علي التقيَّة...) إلي آخر كلامه((1)).

بقيت رواية نقلها صاحب (البحار) عن (مناقب آل أبي طالب)، وهي مرسَلة؛ إذ رواها عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام): «فيما أوصاني به أبي (عليه السلام) أنْ قال: يا بنيَّ، إذا أنا متُّ فلا يُغسِّلني أحد غيرك، فإنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام»((2)).

ورواية أبي بصير في (الخرائج والجرائح)، وهي مرسَلة أيضاً، فقد نقلها عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كان فيما أوصي به إليَّ أبي عليُّ بن الحسين (عليهما السلام) أنْ قال: يا بنيَّ، إذا أنا متُّ فلا يلي غُسلي غيرك، فإنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام مثله...» الخبر((3)).

وهي مرسَلة أيضاً.

وقد نقلها في (كشف الغمَّة) أيضاً((4)).

وقد تبيَّن لك أنَّ هذه الروايات كلَّها ضعيفة السند لا يمكن الاعتماد عليها في إثبات شيء من الفروع، فكيف يُستَدلُّ بها علي تفصيل في الأُصول؟!

إلَّا أنَّنا لم نذكرها لأجل الاعتماد عليها كدليل مستقلٍّ، وإنَّما ذكرناها كقرينة احتماليَّة تدعم بقيَّة القرائن حتَّي نصل إلي القطع أو ما هو بحكمهعقلاً.

وضعف الرواية لا يعني أبداً عدم مطابقة مؤدّاها للواقع، بل غاية ما يقال فيها: إنَّ طريقها لا ينهض لإثبات صدورها، إلَّا أنَّ ذلك لا يعني أيضاً عدم صدورها.

ص: 105


1- ()1() بحار الأنوار (ج 27/ ص 289/ ذيل الحديث 2).
2- ()2() بحار الأنوار (ج 27/ ص 290/ ح 4)، عن مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 351).
3- ()3() الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 264/ ح 8).
4- ()4() كشف الغمَّة (ج 2/ ص 351).

وبذلك يتبيَّن لك أنَّ الإشكال الدلالي لا يُسقِط هذه الروايات عن الاستفادة منها كقرائن احتماليَّة.

فقد قيل: إنَّ ذلك مقيَّد بصورة الحضور، ولذلك استدلَّ الصدوق - علي ما نقل عنه في البحار - بأمر الصادق (عليه السلام) بتغسيل ولده إسماعيل لإبطال إمامته، قال: لأنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام إذا حضره((1)).

بل طرح الصدوق وجهاً آخر((2)) مردُّه إلي أنَّ (لا يُغسِّله إلَّا إمام) جملة يُراد بها الإنشاء، أي إنَّها تنهي غير الإمام أنْ يتصدّي لغُسل الإمام السابق، فلو كان (يُغسِّله) مرفوعاً فهي جملة خبريَّة في مقام الإنشاء، وهذا المبني يكون فعليًّا لو وُجِدَ الإمام الآخر، فتسقط دلالتها علي وجود الإمام (عليه السلام) بعد وفاة والده.

ومأخذ هذا الوجه رواية عن الرضا (عليه السلام)، وهي ما رواه الصدوق (رحمه الله) في (عيون الأخبار) عن تميم بن عبد الله بن تميم القرشي (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثني محمّد بن يحيي، قال: حدَّثني ابن خلف الطاطري، قال: حدَّثني هرثمة بن أعين، قال: كنت ليلة بين يدي المأمون حتَّي مضي من الليل أربع ساعات، ثمّ أذن لي في الانصراف، فانصرفت، فلمَّا مضي من الليل نصفه قرع قارع الباب، فأجابه بعض غلماني، فقال له: قل لهرثمة: أجبسيِّدك.

قال: فقمت مسرعاً، وأخذت عليَّ أثوابي، وأسرعت إلي سيِّدي الرضا (عليه السلام)، فدخل الغلام بين يديَّ ودخلت وراءه، فإذا أنا بسيِّدي (عليه السلام) في صحن داره جالس، فقال لي: «يا هرثمة».

فقلت: لبَّيك يا مولاي.

فقال لي: «اجلس»، فجلست، فقال لي: «اسمع وعِه، يا هرثمة، هذا أوان

ص: 106


1- ()1() بحار الأنوار (ج 47/ ص 248/ ذيل الحديث 10)، عن كمال الدِّين (ص 71).
2- ()2() راجع: عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 97 و98/ ذيل الحديث 8).

رحيلي إلي الله تعالي ولحوقي بجدِّي وآبائي (عليهما السلام)، وقد بلغ الكتاب أجله، وقد عزم هذا الطاغي علي سمّي في عنب ورُمّان مفروك، فأمَّا العنب فإنَّه يغمس السلك في السُّمِّ ويجذبه بالخيط بالعنب، وأمَّا الرُّمّان فإنَّه يطرح السُّمَّ في كفِّ بعض غلمانه ويفرك الرُّمّان بيده ليتلطَّخ حبَّه )في( ذلك السُّمِّ، وأنَّه سيدعوني في اليوم المقبل ويُقرِّب إليَّ الرُّمّان والعنب، ويسألني أكلها، فآكلها، ثمّ ينفذ الحكم ويحضر القضاء، فإذا أنا متُّ فسيقول: أنا أُغسِّله بيدي، فإذا قال ذلك فقل له: عنّي بينك وبينه، إنَّه قال لي: لا تتعرَّض لغُسلي ولا لتكفيني ولا لدفني، فإنَّك إنْ فعلت ذلك عاجلك من العذاب ما أُخِّر عنك، وحلَّ بك أليم ما تحذر، فإنَّه سينتهي».

قال: فقلت: نعم يا سيِّدي.

قال: «فإذا خُلّي بينك وبين غُسلي حتَّي تري، فيجلس في علوٍّ من أبنيته مشرفاً علي موضع غُسلي لينظر، فلا تتعرَّض يا هرثمة لشيء من غُسلي حتَّي تري فسطاطاً أبيض قد ضُرِبَ في جانب الدار، فإذا رأيت ذلك فاحملني في أثوابي التي أنا فيها، فضعني من وراء الفسطاط، وقف من ورائه، ويكون من معك دونك، ولا تكشف عنّي الفسطاط حتَّي تراني فتهلك، فإنَّه سيشرف عليك ويقول لك: يا هرثمة، أليس زعمتم أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام مثله، فمنيُغسِّل أبا الحسن عليَّ بن موسي وابنه محمّد بالمدينة من بلاد الحجاز ونحن بطوس؟ فإذا قال ذلك فأجبه وقل له: إنّا نقول: إنَّ الامام لا يجب أنْ يُغسِّله إلَّا إمام مثله، فإنْ تعدّي متعدٍّ فغسَّل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدّي غاسله ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده بان غُلِبَ علي غُسل أبيه، ولو تُرِكَ أبو الحسن عليُّ بن موسي الرضا (عليه السلام) بالمدينة لغسَّله ابنه محمّد ظاهراً مكشوفاً، ولا يُغسِّله الآن أيضاً إلَّا هو من حيث يخفي. فإذا ارتفع الفسطاط فسوف تراني مدرجاً في أكفاني، فضعني علي نعشي واحملني...» الخبر((1)).

ص: 107


1- ()1() عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 2/ ص 275 - 279/ ح 1).

ولا تصلح هذه الرواية وجهاً لما ذكره الصدوق (رحمه الله)؛ لأنَّها كانت في مقام بيان جواب للمأمون وليست لبيان الواقع. مضافاً إلي أنَّ نفس الرواية قالت: «ولا يُغسِّله الآن إلَّا هو من حيث يخفي».

وكيف كان، فالاحتمال باقٍ علي حاله؛ إذ يمكن أنْ يكون المراد الواقعي منها علي فرض صدورها هو إخبار بواقع مؤدّاه أنَّ كلَّ إمام لا يُغسِّله إلَّا إمام آخر، وأنَّ ذلك يشمل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). والتشكيك الدلالي لا يلغي الاحتمال، نعم يُضعِّفه من جهة قيمته. وفائدة هذا الاحتمال وإنْ ازدادت كلَّما كبر، إلَّا أنَّ أصل الفائدة لا تتوقَّف علي قوَّته.

الطائفة العاشرة: ما دلَّ علي أنَّه ما مات عالم فذهب علمه:

روي الكليني (رحمه الله) عن عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيي الحلبي، عن بريد بن معاوية، عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ عليًّا (عليه السلام) كان عالماً، والعلم يتوارث، ولن يهلك عالم إلَّا بقي من بعده من يعلم علمه، أوما شاء الله»((1)).

والرواية صحيحة السند.

وعن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسي، عن حريز، عن زرارة والفضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: إنَّ العلم الذي نزل مع آدم (عليه السلام) لم يُرفَع، والعلم يتوارث، وكان عليٌّ (عليه السلام) عالم هذه الأُمَّة، وإنَّه لم يهلك منّا عالم قطُّ إلَّا خلفه من أهله من عَلِمَ مثل علمه، أو ما شاء الله»((2)).

والرواية حسنة.

وعن محمّد بن يحيي، عن أحمد بن محمّد، عن البرقي، عن النضر بن سويد،

ص: 108


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 221 و222/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهما السلام) ورثة العلم.../ ح 1).
2- ()2() الكافي (ج 1/ ص 222/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهما السلام) ورثة العلم.../ ح 2).

عن يحيي الحلبي، عن عبد الحميد الطائي، عن محمّد بن مسلم، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «إنَّ العلم يتوارث، ولا يموت عالم إلَّا وترك من يعلم مثل علمه، أو ما شاء الله»((1)).

والرواية صحيحة السند، فعبد الحميد الطائي هو ابن عواض الذي وثَّقه الشيخ في رجاله((2)).

وأمَّا يحيي الحلبي فهو يحيي بن عمران بن عليِّ بن أبي شعبة، وهو ثقة ثقة صحيح الحديث((3)).

والباقون وثاقتهم واضحة.

وعن محمّد بن يحيي، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد،عن فضالة ابن أيّوب، عن عمر بن أبان، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إنَّ العلم الذي نزل مع آدم (عليه السلام) لم يُرفَع، وما مات عالم فذهب علمه»((4)).

وهو حديث صحيح، فعمر بن أبان يُراد به الكلبي أبو حفص، وهو مولي كوفي ثقة((5)).

والباقون وثاقتهم واضحة.

هذه أربع روايات معتبرة السند دلَّت علي أنَّه لن يهلك عالم إلَّا بقي مِنْ بعده مَنْ يعلم علمه أو ما شاء الله، وطُبِّق العالم علي عليٍّ (عليه السلام) في بعضها((6)).

ص: 109


1- ()3() الكافي (ج 1/ ص 222/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهما السلام) ورثة العلم.../ ح 3).
2- ()4() رجال الطوسي (ص 339/ الرقم 5045/6).
3- ()5() راجع: معجم رجال الحديث (ج 21/ ص 77 و78/ الرقم 13593).
4- ()1() الكافي (ج 1/ ص 222/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهما السلام) ورثة العلم.../ ح 5).
5- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 14/ ص 12 - 14/ الرقم 8695).
6- ()3() طُبِّق ذلك في الرواية الثانية.

وأمَّا دلالتها علي ضرورة وجود الإمام الحجَّة عجل الله تعالي فرجه والشريفه فلأنَّه لولا ذلك لما وُجِدَ من يرث علم العسكري (عليه السلام) وعلم آبائه (عليهما السلام).

النتيجة:

بعد كلِّ ما ذكرناه من الروايات وأشرنا إليه دون نصِّه أتظنُّ أنَّه يوجد مجال للتشكيك في التواتر علي ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه؟

إنَّ عدد الروايات التي جمعها الشيخ آصف محسني في النصِّ علي ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه (32) رواية، اثنان منها صحيحتا السند((1)). ومجموع ما يدخل تحت ما ذكرناه من الأبواب يتجاوز المائة بلا شكٍّ بكثير. وبعضه ليس في سنده إلَّا رجلان ممَّا يُعطيه قوَّة احتمال أكبر ممَّا لو تعدَّدت طبقات سندالحديث، وبعض الأسانيد تجد فيها اثنين أو ثلاثة من أعاظم الرواة وأعيان الفقهاء.

لو أردنا أنْ نتسامح وقلنا: إنَّ إثبات الرواية من هذه الروايات لولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه، أي حاصل إثباتها الملحوظ فيه احتمال صدورها وإرادة هذا المعني منها كان بمستوي (10%) في المعدّل، وهو أكثر بكثير في العديد منها بلا شكٍّ، فإنَّ مائة رواية مثبتة بهذا المستوي من درجة الكشف ثبَّتت المطلوب بما قابل حاصل ضرب (90%) في نفسها مائة مرَّة.

وهذا ما يساوي تقريباً ما قابل (27.5) من المليون، وما قابله يساوي (999972.5) من المليون، أي إنَّ احتمال الخطأ أقلّ من ثلث الواحد من العشرة آلاف، هذا مع ملاحظة أنَّ نسبة المطابقة للواقع قد أخذناها بأقلّ احتمال وهو العشرة بالمائة، وبعضها قد يتجاوز الثمانين بالمائة، مثل رواية الكليني (رحمه الله) عن العدَّة عن البرقي عن داود بن القاسم الجعفري في الطائفة الرابعة((2))، ومثل

ص: 110


1- ()4() راجع: مشرعة بحار الأنوار (ج 2/ص 208)، وفيه أنَّ هذا الباب فيه أكثر من أربعين رواية.
2- ()1() تقدَّمت في (ص 85)، فراجع.

رواية الكليني (رحمه الله) عن عليِّ بن محمّد الذي نقل خروج النهي عن زيارة مقابر قريش((1))، والرواية التي نقلها الطوسي (رحمه الله) عن الغضائري، عن محمّد بن أحمد بن داود، عن أبي عليٍّ محمّد بن همّام((2))، ورواية الصدوق عن أبيه وابن المتوكِّل وابن الوليد عن الحميري، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري((3))، وأنا أري أنَّ مثل هذا السند يوصل إلي كشف قد يتجاوز (90%).

ولنقف عند هذا الحدِّ فإنَّ الغاية هي التمثيل لا الاستقصاء.ولك أنْ تقضي عجباً لمن يُشكِّك في تواتر الأدلَّة الدالَّة علي ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

ولا يفوتني أنْ أُنبِّه مرَّةً أُخري أنَّ ما ذُكِرَ وما أُشير إليه أكثر بكثير من المائة، كما أنّي تركت استقصاء أو حتَّي ذكر أخبار مَنْ قيل: إنَّه قد التقاه في غيبته الكبري، وما أكثر هذه المفردات وإن قلَّت قيمتها الاحتماليَّة.

إنَّ ما ذكرناه أو أشرنا إليه من الروايات كانت دلالة الأكثر منه بالدلالة الالتزاميَّة لا المطابقيَّة، وبما أنَّ بعض الأعاظم لا يبني علي حجّيَّة الأمارات بما في ذلك أخبار الثقاة، فقد يكون ذلك منشأ لتوهُّم أنَّه لا فائدة في هذه الروايات وفق المبني المشار إليه لإثبات ولادة الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

لكنَّنا سبق وبيَّنّا في أوَّل هذا البحث أنَّ الحاجة إلي إثبات حجّيَّة الأمارات في مداليلها الالتزاميَّة أو في مثبتاتها - كما يُعبِّرون - إنَّما هي في دائرة التعبُّد وما يمكن أنْ يثبت بواسطة حجّيَّة الأمارة، لا ما كان مترتِّباً علي الأمارة من جهة الكشف، فإنَّه أثر تكويني لا علاقة لدليل الحجّيَّة به.

وهذا يعني أنَّ الدلالات القطعيَّة ولو كانت حاصلة بتراكم الاحتمال

ص: 111


1- ()2() تقدَّمت في (ص 84)، فراجع.
2- ()3() تقدَّمت في (ص 84)، فراجع.
3- ()4() تقدَّمت في (ص 80)، فراجع.

لا ربط لها بمبني الحجّيَّة التعبُّديَّة، ومثل السيِّد الخوئي 1 ممَّن بني علي عدم حجّيَّة الأمارة في مثبتاتها لا شكَّ أنَّه لا يريد إسقاط كاشفيَّتها الظنّيَّة مثلاً عن المداليل الالتزاميَّة.

وفي تراكم الاحتمال لا نحتاج إلَّا إلي هذه الكاشفيَّة.

والتواتر من وسائل الإثبات الوجداني، أي القطعي، والذي لا يُعتَمد في حصوله علي الحجّيَّة الشرعيَّة، بل علي كشف الروايات المتواترة فيموضوع معيَّن مثلاً عن ثبوت صدور هذا اللفظ قطعاً من المعصوم - في التواتر اللفظي -، أو ثبوت صدور هذا المعني - في التواتر المعنوي -، أو ثبوت صدور رواية واحدة علي الأقلّ من الروايات المتواترة - في التواتر الإجمالي -، كلُّ ذلك بنحو البتِّ والجزم.

فالمبني المزبور لا علاقة له بحصول التواتر أو عدمه.

ولا يفوتني أنْ أُنوِّه إلي أنَّ بعض القواعد المقدّمة والتي قلنا: لا بدَّ من ملاحظتها لأنَّها تُؤثِّر في قوَّة الاحتمال الحاصل منها والكاشفيَّة، قد يكون بعضها ممَّا لم نُشِر إليه في التطبيق، وإنَّما لم نذكرها هناك للاستغناء عنها بعد هذا الكمِّ من الروايات والتنوُّع فيها، وإنَّما ذكرتها ليلاحظها الباحث لقطع الشكِّ في نفسه إذا شكَّك في حصول التواتر وترتُّب الجزم والقطع عليه، ذلك (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً 62) (الفرقان: 62).

لا منافاة بين تراكم الاحتمال والمباني في التواتر:

قد يقول قائل: إنَّ تراكم الاحتمال كنظريَّة لا يرتبط بمبني السيِّد الخوئي 1 أو غيره في التواتر، فالحديث عن أنَّه وفق مبني السيِّد الخوئي 1 لا يتحقَّق التواتر علي ولادة الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه، وعلي هذا يكون الخوض في تراكم الاحتمال أجنبيًّا بالمرَّة عن محلِّ النزاع.

لكن تراكم الاحتمال لا يتنافي مع أيِّ مبني في التواتر؛ إذ إنَّهم قد عرَّفوا

ص: 112

التواتر بأنَّه إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم علي الكذب - وإنْ كان في هذا التعريف نوع مسامحة -، وينبغي أنْ يكون المقصود إخبار جماعة يمتنع مخالفة خبرهم للواقع، فلا دخالة للتواطؤ، كما لا دخالة للكذب، فقد يكون منشأ مخالفة الواقع الخطأ والاشتباه من المخبر.ووجه عدم التنافي بين نظريَّة التراكم وبين أيِّ مبني في التواتر هو أنَّ تراكم الاحتمال يُبيِّن لنا كيفيَّة حصول العلم من الخبر المتواتر، وهذا قابل للانطباق علي كلِّ المباني، والتي اختلفت من حيث العدد المعتبر في المخبرين، والذي بموجبه يحصل القطع بمطابقة خبرهم للواقع.

نعم، قد ينعكس الأخذ بتراكم الاحتمال علي ما هو معتبر في التواتر؛ إذ حينها لا خصوصيَّة للعدد وإنْ كانت أصل الكثرة معتبرة، بل المدار علي ما يحصل به الجزم، وهذا مرتبط بنوعيَّة المخبر ونوعيَّة القضيَّة المخبر عنها وبمسلك الراوي، فمن يُخبر بقضيَّة علي خلاف متبنّاه يكون احتمال الصدق في خبره أكبر ممَّا لو أخبر بقضيَّة موافقة لمتبنّاه. وعلي هذا فقد يحصل التواتر بإخبار عشرة وقد لا يحصل بإخبار عشرين.

وكيف كان، فلا مجال لتوهُّم كون تراكم الاحتمال أجنبيًّا عمَّا اتُّخِذَ من مسلك في حصول التواتر.

ولا فرق حينئذٍ بين أنْ تكون الدلالة مطابقيَّة أو التزاميَّة؛ لأنَّ الدليل الذي يكشف عن مدلوله المطابقي بدرجة ما يكشف بنفس الدرجة عن المدلول الالتزامي بمقتضي الملازمة.

وهذا لا علاقة له أيضاً بمبحث حجّيَّة الأمارات في المداليل الالتزاميَّة ثبوتاً وعدماً كما تقدَّم((1)).

ص: 113


1- ()1() في (ص 63)، فراجع.

مؤيِّدات من القرآن والعقل:

الآيات القرآنيَّة:

ويُؤيِّد ما ذكرنا جملة من الآيات الشريفة سنتعرَّض لذكرها وبيان وجه تأييدها بشيء من الاختصار، وهي لا تُثبِت مباشرةً أو تُؤيِّد مستقلَّةًوجود الإمام وولادته، بل فيها تأييد أو ربَّما أكثر من تأييد لوجود حجَّة في الأرض، فتحتاج إلي أدلَّة أُخري أو متمِّمات للدلالة أو التأييد.

الآية الأُولي: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (الإسراء: 71).

وقد استند إليها البعض لإثبات وجود إمام في كلِّ زمانٍ، ببيان أنَّ دعوة كلِّ أُناس بإمامهم تشمل كلَّ الأعصار، وهذا يعني أنَّه لا بدَّ من إمام لكلِّ أُناس، ممَّا يقتضي أنَّه لا بدَّ أنْ يكون موجوداً. وظاهر لفظة (إمام) الإمام الحقُّ، وهو واحد في كلِّ زمانٍ.

ولكن في الدلالة ما فيها، ولذلك جعلناها مؤيِّدة.

وفي الرواية عن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ)؟

قال: «إمامهم الذي بين أظهرهم، وهو قائم أهل زمانه»((1)).

وفي الصحيح عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالي: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ)، قال: «يجيء رسول الله (صلي الله عليه وآله) في قومه، وعليٌّ في قومه، والحسن في قومه، والحسين في قومه، وكلُّ من مات بين ظهراني قوم جاؤوا معه»((2)).

ص: 114


1- ()1() تفسير نور الثقلين (ج 3/ ص 191 و192/ ح 330)؛ الكافي (ج 1/ ص 536 و537/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهما السلام) كلَّهم قائمون بأمر الله.../ ح 3).
2- ()2() تفسير نور الثقلين (ج 3/ ص 192/ ح 332)؛ تفسير القمّي (ج 2/ ص 22 و23).

وعن عمّار الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «لا تُترَك الأرض بغير إمام يحلُّ حلال الله ويُحرِّم حرام الله، وهو قول الله: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ)»، ثمّ قال: «قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): من مات ميتةً جاهليَّةً»، فمدُّوا أعناقهم وفتحوا أعينهم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «أليست الجاهليَّة الجهلاء؟»،فلمَّا خرجنا من عنده قال لنا سليمان: هو والله الجاهليَّة الجهلاء، ولكن لمَّا رآكم مددتم أعناقكم وفتحتم أعينكم قال لكم كذلك((1)).

والروايات ظاهرة الدلالة في أنَّه لا بدَّ في كلِّ زمانٍ من إمام.

وهذا يعني أنَّ هذه الآية بضميمة الروايات ستكون تامَّة الدلالة، لكن دلالتها في حدود الظهور وليست نصًّا.

الآية الثانية: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).

ووجه التأييد أنَّ الشهادة وفق المنطق القرآني إنَّما هي لما يدور عليه الحساب يوم القيامة، ولمَّا كانت المحاسبة علي ما تكسبه القلوب (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (البقرة: 225)، وإدراك ذلك لا يتيسَّر إلَّا لمن مكَّنه الله تعالي، فكشف له عن مستور النفوس، سواء كانت حاضرة أم غائبة، وذلك أمر خاصٌّ بأُناس تولّي الله تعالي شؤونهم.

فمقام الشهادة علي هذا لأفراد من هذه الأُمَّة وليس لجميع أبنائها؛ إذ ليس جميع أفراد الأُمَّة لهم هذه القدرة والقابليَّة علي الاطِّلاع علي ما تكنه نفوس الناس.

ولمَّا كانت الشهادة وفق المنطق القرآني تقتضي الحياة كما في قول عيسي (عليه السلام): (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ

ص: 115


1- ()1() تفسير نور الثقلين (ج 3/ص 194/ح 343)؛ تفسير العيّاشي (ج 2/ص 303/ح 119).

الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلي كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 117) (المائدة: 117)، فالآية لا تخلو من شهادة وتأييد علي أنَّه لا بدَّ من وجود بعض أفراد هذه الأُمَّة يشهدون علي الناس في كلِّ الأزمنة، ويتحمَّلون شهادتهم حال حياتهم.

ومقام الشهادة بالشرط الذي ذكرناه لا يتيسَّر إلَّا للأئمَّة (عليهما السلام)، والشهادةمطلقة، وأداؤها يوم القيامة، وإطلاق لفظ (الناس) ظاهر في الامتداد علي جميع الأزمنة حتَّي يرث الله الأرض ومن عليها.

ولقد تكرَّر في الروايات أنَّهم (عليهما السلام) هم الأُمَّة الوسط والشهداء علي الناس، ففي رواية حمران بن أعين عن الباقر (عليه السلام) إنَّما أنزل الله: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ، يعني عدولاً، (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) )البقرة: 143(»، قال: «ولا يكون شهداء علي الناس إلَّا الأئمَّة (عليهما السلام) والرُّسُل، فأمَّا الأُمَّة فإنَّه غير جايز أنْ يستشهدها الله، وفيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا علي حزمة بقل»((1)).

وفي رواية بريد العجلي - وهي صحيحة علي مبني -، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النَّاسِ)، فقال: «نحن الأُمَّة الوسطي، ونحن شهداء الله علي خلقه، وحُجَجه في أرضه»((2)).

وفي روايته الأُخري - وهي حسنة علي مبني وصحيحة علي آخر - نفس المعني((3)).

ص: 116


1- ()1() تفسير نور الثقلين (ج 1/ ص 135/ ح 411)؛ مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 314).
2- ()2() تفسير نور الثقلين (ج 1/ ص 134/ ح 402)، عن الكافي (ج 1/ ص 190/ باب في أنَّ الأئمَّة شهداء الله عزوجل علي خلقه/ ح 2).
3- ()3() تفسير نور الثقلين (ج 1/ ص 134/ ح 403).

وكيف كان فالاستدلال بالآية منفردة مدخول بما ليس هذا محلّ تفصيله، لكن التأييد لا غبار عليه، كما لا غبار علي الدلالة بضميمة الروايات الواردة في تفسيرها أو تطبيقها علي محلِّ الكلام.

وهذا شأن بقيَّة الآيات، فلا حاجة إلي إعادة الكلام هناك. وليُلتَفتإلي أنَّ تماميَّة الدلالة إنَّما هو فيما إذا أمكن القطع من مجموع الآية والروايات الملحقة بها وفق ما حقَّقناه من ضرورة توفُّر القطع في موارد المعتقد.

الآية الثالثة: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30).

وتوجيه دلالتها أنَّ الخلافة المجعولة لمَّا كانت مطلقة أي لم تكن خلافة لموجود آخر ليصبح المعني أنّي وضعت الإنسان في الأرض ليخلف من قبله، بل هو خليفة للجاعل وهو الله تبارك وتعالي.

ويدعم ذلك أنَّ الخلافة التي كانت مطلوبة للملائكة هي الخلافة الإلهيَّة لا الخلافة عن المخلوقات الأرضيَّة الماضية.

ويُؤيِّده أنَّه لو كانت الخلافة المرادة عن غيره من المخلوقات لم يكن مجال لاستغراب الملائكة بقولهم: (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (البقرة: 30)، فمن كانوا قبل النوع الإنساني عاثوا فساداً في الأرض، فلِمَ الاستغراب من الملائكة؟

وإطلاق الخلافة يعني خلافة الإنسان لله تعالي في مختلف الشؤون، ومن هنا لزم توفُّر القدرة في الخليفة للتصرُّف المناسب في الأُمور، وممَّا تتوقَّف عليه القدرة علي ذلك كون الخليفة عالماً بجميع صفات المستخلِف وشؤون ما يستخلفه فيه، وهو الإنسان الكامل الذي يكون خليفة الله في أرضه.

ولمَّا لم تكن هذه الخصائص ثابتة لجميع الناس، إذن فالمراد البعض، بل بعض الآحاد، وهو الأوحدي.

ص: 117

وحين استعمل القرآن مفردة: (جاعِلٌ) اقتضي ذلك استمرار هذا الجعل في أمد الزمان من أوَّل خلقة آدم (عليه السلام) إلي يوم القيامة.وهذا المعني تدلُّنا عليه رواية محمّد بن إسحاق بن عمّار، قال: قلت لأبي الحسن الأوَّل (عليه السلام): ألَا تدلَّني إلي من آخذ عنه ديني؟

فقال: «هذا ابني عليٌّ، إنَّ أبي أخذ بيدي فأدخلني إلي قبر رسول الله (صلي الله عليه وآله)، فقال: يا بنيَّ، إنَّ الله عزوجل قال: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً)، وإنَّ الله عزوجل إذا قال قولاً وفي به»((1)).

وكأنَّ سؤال السائل: من آخذ عنه ديني بعد وفاتك؟

وقوله عزوجل: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً) أراد به: إنّي أجعل ذلك أبداً ولا أُخلي الأرض من خليفة إلي يوم القيامة.

لا يقال: إنَّ الآية ناظرة إلي جعل الخلافة لآدم (عليه السلام)، فكيف عُمِّمت إلي أبناء نوعه؟

لأنَّه يقال: لو كان الملائكة قد فهموا جعلها لشخص آدم (عليه السلام) فقط لما ساغ لهم أنْ يقولوا: (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ). هذا أوَّلاً.

وثانياً: لمَّا كان دفع شبهتهم من قِبَل الله تعالي بتعليم آدم (عليه السلام) للأسماء، بل كان المناسب أنْ يُثبِت لهم أنَّه (عليه السلام) لا يُفسِد فيها ولا يُسفِك الدماء.

فالمجعول للخلافة آدم النوعي، والمناط فيه قابليَّة للعلم ما كانت موجودة عند الملائكة، لا مجرَّد أنَّه تعالي قد علَّمه بعض الأسماء أو كلَّها، وإلَّا لقالوا: إنَّما أجابك وأنبأنا بالأسماء لأنَّك أعلمته إيّاها.

بل لا يخلو العدول عن التعبير ب (أعلم) إلي (علَّم) من إشارة إلي أنَّ الذي حصل لم يكن مجرَّد طباعة أسماء في ذهن آدم (عليه السلام)، فالتعليم غير الإعلام؛ إذ

ص: 118


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 312/ باب الإشارة والنصِّ علي أبي الحسن الرضا (عليه السلام)/ ح 4).

التعليم يوحي بأنَّه إفادة القابليَّة، وهي هنا علي التفكيروالاستنتاج والإعلام إفادة معلومة.

ومن هنا يتَّضح أنَّ الله تعالي لم يكن - في مقام بيان واقع مناط الاستخلاف - بحاجة إلي أنْ ينفي ما ذكرته الملائكة من وجود نزعة الشرِّ عند بني النوع الإنساني، بل سكوته عنها يشير إلي تقرير ذلك عند بعض أبناء النوع، بل حتَّي غالبيَّتهم المطلقة.

الآية الرابعة: (يا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (المائدة: 67).

ببيان أنَّ الله تبارك وتعالي أمر نبيَّه (صلي الله عليه وآله) وفق هذه الآية بتبليغ أمر للناس يكون التبليغ السابق لكلِّ ما بلغ من تفاصيل الشريعة كالعدم في صورة تبليغ هذا الأمر، وحين نأتي إلي المعطي التاريخي والروائي نجد أنَّ النبيَّ (صلي الله عليه وآله) قد امتثل هذا الأمر بأخذ البيعة لعليٍّ (عليه السلام) في غدير خُمٍّ، حيث نصَّ هناك علي أنَّ أمير المؤمنين عليًّا (عليه السلام) أولي بالمؤمنين من أنفسهم كما كان هو أولي بهم من أنفسهم (النَّبِيُّ أَوْلي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب: 6).

ممَّا يعني أنَّ ترك تبليغ ولاية عليٍّ (عليه السلام) يجعل ما سبق من تبليغ الرسالة كالعدم، وبملاحظة أنَّ بيعة الغدير ونزول الآية في سورة المائدة كان في أُخريات حياة النبيِّ (صلي الله عليه وآله) نصل إلي أنَّ هناك أهمّيَّة بالغة الشدَّة في تبليغ الولاية، وما يوجب ذلك أحد أمرين:

الأوَّل: أنَّ هناك أحكاماً وتعليمات أُخري في الشريعة لم يُبلِّغها النبيُّ(صلي الله عليه وآله)، فأوكل الأمر إلي أمير المؤمنين (عليه السلام) لإكمال المهمَّة، وكان لا بدَّ من أخذ البيعة له من الناس ليُطيعوه فيما يأمرهم.

الثاني: أنَّ هناك أمراً يكون بقاء الشريعة منوطاً به، فإذا انتفي ذهبت الشريعة أدراج الرياح، فتكون كالعدم.

ص: 119

أمَّا الاحتمال الأوَّل فيُضعِّفه أنَّ بقاء بعض أحكام الشريعة غير مبيَّنة لا يستوجب تنزيل ما بلغ منها منزلة العدم، اللَّهُمَّ إلَّا إذا كان المراد من قوله تعالي: (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ): ما بلَّغت تمام رسالته، وهو خلاف الظاهر؛ لأنَّه يحتاج إلي التقدير، والأصل عدم التقدير، وأعني بالظاهر ظاهر حاله في أنَّ ما لا يقوله لا يريده.

كذلك يحتاج الاحتمال الأوَّل إلي إثبات عدم بيان بعض أحكام الشريعة علي عهد النبيِّ (صلي الله عليه وآله)، وهذا لا مشكلة كبيرة فيه؛ إذ الكثير من جزئيّات الشريعة ولو بمستوي تطبيق تعاليمها فضلاً عن تفسير الآيات وأحاديث النبيِّ (صلي الله عليه وآله) لم تتَّضح في زمانه.

فيتعيَّن الاحتمال الثاني.

لكن الإنصاف أنَّ للمناقشة في وجه الدلالة هذا مجالاً، إلَّا أنَّه لا يضرُّ، من جهة أنَّ الآية كانت مؤيِّدة ولم نرد من سوقها هنا أكثر من إثبات كونها مؤيِّدة لما ثبت بالروايات المتواترة ولو إجمالاً علي وجود حجَّة لله تعالي في كلِّ زمانٍ.

وهناك آيات أُخري لا شهادة فيها منفردة لكن الروايات دلَّت علي أنَّ المراد بها هو الإمام (عليه السلام)، منها قوله تعالي: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) (الحجّ: 41)، ففي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «هذه الآية لآل محمّد (عليهما السلام) إلي آخر الأئمَّة، والمهدي وأصحابه يُملِّكهم الله مشارق الأرض ومغاربها، ويُظهِر الدِّين، ويُميت الله به وبأصحابه البِدَع والباطل كما أمات السفه الحقَّ حتَّي لا يُري أثر للظلم»((1)).

ولا بدَّ من إضافة الروايات التي قالت: إنَّ المهدي هو ابن الحسن العسكري (عليه السلام).

ص: 120


1- ()1() تفسير القمي (ج 2/ ص 87).

ولنكتفِ بهذا المقدار؛ إذ ليس الغرض هو الاستقصاء وإنَّما الإتيان بشواهد وأمثلة من الدوال علي هذا الأمر.

المؤيِّدات العقليَّة:

اشارة

هناك وجوه عقليَّة تناثرت في كُتُب الكلام سيقت كأدلَّة علي ضرورة وجود حجَّة في كلِّ زمانٍ أو حافظ للشريعة بعد النبيِّ (صلي الله عليه وآله) دون أنْ تنصبَّ علي شخص الإمام أو الحجَّة في زمان؛ لأنَّ الحديث عن شخص هو حديث عن مسألة جزئيَّة، والعقل لا يتطرَّق إلي الجزئيّات إثباتاً؛ لأنَّ مساحة عمله الكلّيّات. وإنْ أمكن نفي الجزئيَّة اعتماداً علي الدليل العقلي لكن لا بما هي جزئيَّة، بل عن طريق إقامة البرهان علي النفي الكلّي، والسلب الكلّي يقتضي انتفاء الجزئيّات قطعاً.

ونحن هنا نتعرَّض لبعضها لا بعنوان أنَّها أدلَّة لإمكان المناقشة فيها، بل بعنوان المؤيِّدات.

والمناقشات تورث انتفاء ترتُّب القطع علي الدليل، ولا تورث القطع بانتفاء المدلول، إلَّا إذا تضمَّنت المناقشة مؤونة زائدة يمكن من خلالها إثبات القطع بالانتفاء.

الأوَّل: الوساطة في الفيض:

إنَّ الأشياء محتاجة إلي الله تعالي في أصل وجودها، وهذا مقتضي التوحيد في الخالقية، فالله تعالي خالق كلِّ شيء ولا خالق سواه.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ 73) (الحجّ:73).

والأشياء محتاجة في بقائها إليه تعالي، فلو انقطع عنها الفيض الإلهي لآنٍ من الزمان لانتفي وجودها، ومن هنا لم ولن ينقطع الفيض عن الموجودات في ظرف وجودها.

ص: 121

وقد اتَّخذ الله تعالي وسائط في إيصال فيضه إلي مخلوقاته، وقد دلَّت الأدلَّة علي أنَّ النبيَّ (صلي الله عليه وآله) وآله الكرام (عليهما السلام) وسائط بين الله وبين خلقه في ذلك، وهذا يعني أنَّه لا بقاء للوجود بدونهم (عليهما السلام)، ممَّا يعني أنَّه لا بدَّ من واحد منهم في كلِّ زمانٍ، وهذا يقتضي وجود أحدهم في فترة ما بعد رحيل الحسن العسكري (عليه السلام) إلي زماننا، وليس هو إلَّا الإمام الحجَّة عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

هذه هي جهة التأييد، أمَّا لماذا لم نقل: إنَّه دليل؟ لأنَّ وساطة الفيض لا تقتضي أنْ تكون واسطة الفيض في هذه النشأة، فالنبيُّ (صلي الله عليه وآله) واسطة في الفيض قبل مجيئه إلي هذه النشأة، فلقد تشرَّف عالم الإمكان بوجوده قبل أنْ تشرق الأرض بولادته.

الثاني: قاعدة اللطف:

ممَّا استند إليه في إثبات ضرورة بعثة الأنبياء (عليهما السلام) وضرورة وجود إمام في كلِّ زمانٍ قاعدة اللطف. ولنُلخِّص ما ذكره في (عقائد الإماميَّة)((1)) في مبحث النبوَّة في نقاط:

1 - إنَّ الإنسان مخلوق غريب الأطوار، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة وبواعث الخير والصلاح من جهة أُخري، تُحرِّكه العواطف والغرائز ويُرشِده العقل والضمير.

2 - لا يزال الخصام الداخلي في النفس الإنسانيَّة مستمرًّا بين العاطفة والعقل، وأشدّ هذين المتخاصمين أثراً علي النفس العاطفة وجنودها، (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ 103) (يوسف: 103).

3 - لقصور الإنسان ومحدوديَّة اطِّلاعه لا يستطيع أنْ يعرف كلَّ ما يضرُّه

ص: 122


1- ()1() راجع: عقائد الإماميَّة (ص 48 - 64).

وينفعه، سواء علي المستوي الشخصي أو النوعي، ولأجل أنْ يبلغ مراتب السعادة يحتاج إلي من يُحدِّد له معالم الطريق.

4 - لأجل ذلك وجب علي الله بمقتضي لطفه أنْ يبعث رسولاً (مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة: 2).

واللطف يقتضيه كمال الله المطلق عندما يوجد القابل المستعدُّ.

وأضاف في مبحث الإمامة((1)) ما ملخَّصه:

إنَّ الإمامة لطف كالنبوَّة، فلا بدَّ أنْ يكون في كلِّ عصر إمام هادي يخلف النبيَّ في وظائفه من الهداية والإرشاد إلي ما فيه الصلاح.

فالدليل الذي يوجب إرسال الرُّسُل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب نصب الإمام بعد النبيِّ. وعليه لا يجوز أنْ يخلو عصر من العصور من إمام مفروض.

ويمكن أنْ تُستفاد الإشارة إلي قاعدة اللطف وتطبيقها في هذا الخصوص من رواية يونس بن يعقوب، فقد روي الكليني (رحمه الله) عن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عمَّن ذكره، عن يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فورد عليه رجل من أهل الشام، فقال: إنّي رجل صاحب كلام وفقه وفرائض، وقد جئت لمناظرة أصحابك.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «كلامك من كلام رسول الله (صلي الله عليه وآله) أو من عندك؟».فقال: من كلام رسول الله (صلي الله عليه وآله)، ومن عندي.

فقال أبو عبد الله: «فأنت إذاً شريك رسول الله؟».

قال: لا.

ص: 123


1- ()1() راجع: عقائد الإماميَّة (ص 65 - 88).

قال: «فسمعت الوحي عن الله عزوجل يُخبرك؟».

قال: لا.

قال: «فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله (صلي الله عليه وآله)؟».

قال: لا.

فالتفت أبو عبد الله (عليه السلام) إليَّ فقال: «يا يونس بن يعقوب، هذا قد خصم نفسه قبل أنْ يتكلَّم»، ثمّ قال: «يا يونس، لو كنت تُحسِن الكلام كلَّمته».

قال يونس: فيا لها من حسرة، فقلت: جُعلت فداك، إنّي سمعتك تنهي عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام يقولون: هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «إنَّما قلت: فويل لهم إنْ تركوا ما أقول وذهبوا إلي ما يريدون»، ثمّ قال لي: اخرج إلي الباب فانظر من تري من المتكلِّمين فأدخله».

قال: فأدخلت حمران بن أعين وكان يُحسِن الكلام، وأدخلت الأحول وكان يُحسِن الكلام، وأدخلت هشام بن سالم وكان يُحسِن الكلام، وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاماً، وكان قد تعلَّم الكلام من عليِّ بن الحسين (عليهما السلام)، فلمَّا استقرَّ بنا المجلس - وكان أبو عبد الله (عليه السلام) قبل الحجِّ يستقرُّ أيّاماً في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة -.

قال: فأخرج أبو عبد الله رأسه من فازته، فإذا هو ببعير يخبُّ، فقال: «هشام وربِّ الكعبة».

قال: فظننَّا أنَّ هشاماً رجل من ولد عقيل كان شديد المحبَّة له.

قال: فورد هشام بن الحَكَم، وهو أوَّل ما اختطَّت لحيته، وليس فينا إلَّا من هو أكبر سنًّا منه.

قال: فوسَّع له أبو عبد الله (عليه السلام)، وقال: «ناصرنا بقلبه ولسانه ويده»، ثمّ قال: «يا حمران، كلِّم الرجل»، فكلَّمه، فظهر عليه حمران.

ص: 124

ثمّ قال: «يا طاقي، كلِّمه»، فكلَّمه، فظهر عليه الأحول.

ثمّ قال: «يا هشام بن سالم، كلِّمه»، فتعارفا.

ثمّ قال أبو عبد الله (عليه السلام) لقيس الماصر: «كلِّمه»، فكلَّمه، فأقبل أبو عبد الله (عليه السلام) يضحك من كلامهما ممَّا قد أصاب الشامي.

فقال للشامي: «كلِّم هذا الغلام - يعني هشام بن الحَكَم -».

فقال: نعم، فقال لهشام: يا غلام، سَلْني في إمامة هذا.

فغضب هشام حتَّي ارتعد، ثمّ قال للشامي: يا هذا، أربُّك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟

فقال الشامي: بل ربّي أنظر لخلقه.

قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟

قال: أقام لهم حجَّةً ودليلاً كيلا يتشتَّتوا أو يختلفوا، يتألَّفهم ويُقيم أودهم ويُخبرهم بفرض ربِّهم.

قال: فمن هو؟

قال: رسول الله (صلي الله عليه وآله).

قال هشام: فبعد رسول الله (صلي الله عليه وآله)؟

قال: الكتاب والسُّنَّة.

قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسُّنَّة في رفع الاختلاف عنّا؟

قال الشامي: نعم.قال: فلِمَ اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إيّاك؟

قال: فسكت الشامي، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للشامي: «ما لك لا تتكلَّم؟».

قال الشامي: إنْ قلتُ: لم نختلف كذبت، وإنْ قلتُ: إنَّ الكتاب والسُّنَّة

ص: 125

يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت؛ لأنَّهما يحتملان الوجوه، وإنْ قلتُ: قد اختلفنا وكلُّ واحدٍ منّا يدَّعي الحقَّ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسُّنَّة، إلَّا أنَّ لي عليه هذه الحجَّة.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «سَلْه تجده مليًّا».

فقال الشامي: يا هذا، من أنظر للخلق أربُّهم أو أنفسهم؟

فقال هشام: ربُّهم أنظر لهم منهم لأنفسهم.

فقال الشامي: فهل أقام من يجمع لهم كلمتهم ويُقيم أودهم ويُخبرهم بحقِّهم من باطلهم؟

قال هشام: في وقت رسول الله (صلي الله عليه وآله) أو الساعة؟

قال الشامي: في وقت رسول الله، رسول الله (صلي الله عليه وآله)، والساعة من؟

فقال هشام: هذا القاعد الذي تُشَدُّ إليه الرحال، ويُخبرنا بأخبار السماء )والأرض( وراثةً عن أبٍ عن جدٍّ.

قال الشامي: فكيف لي أنْ أعلم ذلك؟

قال هشام: سَلْه عمَّا بدا لك.

قال الشامي: قطعت عذري، فعليَّ السؤال.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا شامي، أُخبرك كيف كان سفرك؟ وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا»، فأقبل الشامي يقول: صدقت، أسلمت لله الساعة.فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «بل آمنت بالله الساعة، إنَّ الإسلام قبل الإيمان، وعليه يتوارثون ويتناكحون، والإيمان عليه يثابون».

فقال الشامي: صدقت... الخبر((1)).

وإنَّما لم نقل بتماميَّة الاستدلال بقاعدة اللطف للإشكال في اقتضاء اللطف

ص: 126


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 171 - 173/ باب الاضطرار إلي الحجَّة/ ح 4).

ضرورة وجود إمام في كلِّ زمانٍ؛ لأنَّه منقوض عليها بأجيال خلت من النذير (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (يس: 6)، وأُمَم لم يُبعَث فيها نبيٌّ ولا يوجد فيهم إمام لقرون متمادية كالأمريكتين وأُستراليا منذ بعثة النبيِّ (صلي الله عليه وآله) إلي زمان وصول الحضارة لهم.

الثالث: الرحمة الإلهيَّة:

وتوجيهه أنَّ الكمال المطلق ثابت لله تبارك وتعالي، وكذا رحيميَّته المطلقة، وعلمه تعالي بنظام الخير قد اقتضي أنْ يخلق له شعراً علي الحاجب وشعراً علي الأشفار، كما اقتضي أنْ يُقعِر أخمس القدم، وغير ذلك.

فهل اقتضت عنايته تعالي تلك المنافع ولم تقتضِ وجود الأنبياء والرُّسُل والأئمَّة (عليهما السلام) لتعليم الناس ما يُصلِحهم ويضرُّهم وسوقهم نحو سعادتهم في الدنيا والآخرة؟

إنَّ مقتضي كماله المطلق ورحمته المطلقة وعلمه وقابليَّة المحلِّ مع عدم وجود المانع هو الإفاضة، وإلَّا لزم الخلف في إطلاق رحمته وكماله، فلا بدَّ في كلِّ زمانٍ من وجود إمام يكون إنساناً كاملاً هادياً للناس مقيماً للعدل والقسط، رافعاً للظلم والعدوان، مجسِّداً للشريعة بسلوكه، حافظاً لدين الله، رافعاً للشبهة والاختلاف، وهذا ما استدلَّ به الحكماء.وغير خفيٍّ أنَّ المراد هو الحجَّة لا الإمام، لكن لعدم وجود من يكون الحجَّة المجسِّد للشريعة بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله) سوي الأئمَّة (عليهما السلام) التزمنا بأنَّ المراد ولو من جهة تطبيق الحجَّة هو الإمام (عليه السلام)، وبعد رحيل الإمام العسكري (عليه السلام) هو الإمام الثاني عشر عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

ولا مشكلة في هذا الوجه في حدود التأييد، ويكفي في عدم الدلالة الدخل الذي أوردناه علي قاعدة اللطف، فلا حاجة للإطالة والتكرار.

ص: 127

الرابع: قياس الأولويَّة:

ممَّا ذُكِرَ في الروايات كوجه عقلي لإثبات ضرورة وجود الإمام في كلِّ زمانٍ قياس الأولويَّة.

فقد روي الكليني (رحمه الله) عن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن إبراهيم، عن يونس بن يعقوب، قال: كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة من أصحابه منهم: حمران بن أعين، ومحمّد بن النعمان، وهشام بن سالم، والطيّار، وجماعة فيهم هشام بن الحَكَم، وهو شابٌّ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا هشام، ألَا تُخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟».

فقال هشام: يا ابن رسول الله، إنّي أُجِلُّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك.

فقال أبو عبد الله: «إذا أمرتكم بشيء فافعلوا».

قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة، فعظم ذلك عليَّ، فخرجت إليه، ودخلت البصرة يوم الجمعة، فأتيت مسجد البصرة، فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متَّزر بها من صوف، وشملة مرتد بها والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثمّ قعدت في آخر القوم علي ركبتيَّ، ثمّ قلت: أيُّهاالعالم، إنّي رجل غريب تأذن لي في مسألة؟

فقال لي: نعم.

فقلت له: ألك عين؟

فقال: يا بنيَّ، أيّ شي هذا من السؤال؟ وشيء تراه كيف تسأل عنه؟

فقلت: هكذا مسألتي.

فقال: يا بنيَّ، سَلْ وإنْ كانت مسألتك حمقاء.

ص: 128

قلت: أجبني فيه.

قال لي: سَلْ.

قلت: ألك عين؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع بها؟

قال: أري بها الألوان والأشخاص.

قلت: فلك أنف؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أشمُّ به الرائحة.

قلت: ألك فم؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أذوق به الطعم.

قلت: فلك أُذُن؟

قال: نعم.قلت: فما تصنع بها؟

قال: أسمع بها الصوت.

قلت: ألك قلب؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أُميِّز به كلَّما ورد علي هذه الجوارح والحواسِّ.

ص: 129

قلت: أوَليس في هذه الجوارح غني عن القلب؟

فقال: لا.

قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟

قال: يا بنيَّ، إنَّ الجوارح إذا شكَّت في شيء شمَّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردَّته إلي القلب، فيستيقن اليقين ويُبطِل الشكَّ.

قال هشام: فقلت له: فإنَّما أقام الله القلب لشكِّ الجوارح؟

قال: نعم.

قلت: لا بدَّ من القلب وإلَّا لم تستيقن الجوارح؟

قال: نعم.

فقلت له: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالي لم يترك جوارحك حتَّي جعل لها إماماً يُصحِّح لها الصحيح ويتيقَّن به ما شكَّ فيه، ويترك هذا الخلق كلَّهم في حيرتهم وشكِّهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماماً يردُّون إليه شكَّهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك تردُّ إليه حيرتك وشكِّك؟!

قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً.

ثمّ التفت إليَّ، فقال لي: أنت هشام بن الحَكَم؟

فقلت: لا.قال: أمن جلسائه؟

قلت: لا.

قال: فمن أين أنت؟

قال: قلت: من أهل الكوفة.

قال: فأنت إذاً هو، ثمّ ضمَّني إليه، وأقعدني في مجلسه، وزال عن مجلسه، وما نطق حتَّي قمت.

ص: 130

قال: فضحك أبو عبد الله (عليه السلام)، وقال: «يا هشام، من علَّمك هذا؟».

قلت: شيء أخذته منك وألَّفته.

فقال: «هذا والله مكتوب في صُحُف إبراهيم وموسي»((1)).

وقياس الأولويَّة هنا أنَّه لمَّا كانت الناس علي كثرتها قد تقع في الشكِّ فهي في حاجة إلي من يرفع شكَّها، فإذا كانت حاجة الحواسِّ للذي يرفع شكَّها عند حصوله استدعت أنْ يخلق الله معها ما ترجع إليه لدفع الشكِّ ومعرفة الحقِّ ورفع الحيرة والتردُّد، فالخلق أولي بأنْ يجعل لهم إماماً.

وإنَّما لم يُجعَل دليلاً لأنَّ الحواسَّ ليست إلَّا أدوات للإدراك، والنفس هي المدرِك، فالحواسُّ لا إدراك فيها ليقع الشكُّ فيها لترجع بعدها إلي حجَّة.

نعم، ما ذُكِرَ يصلح للاحتجاج خطابيًّا لا بشكل علمي يصحُّ الاستناد إليه لإثبات المطالب الاعتقاديَّة.

الخامس: خاتميَّة الرسالة تقتضي ضرورة وجود إمام في كلِّ زمانٍ:قد يقال: إنَّ بالإمكان إثبات ضرورة وجود الإمام الحافظ للشريعة والحامل لأتباعها علي المحجَّة البيضاء في كلِّ زمانٍ بملاحظة أمرين:

الأوَّل: أنَّ شريعة النبيِّ (صلي الله عليه وآله) هي الشريعة الخاتمة، وهذا ما لا شكَّ فيه، ويشير إليه بشكل لا غبار عليه، قوله تعالي: (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب: 40).

الثاني: عمومية الرسالة لكلِّ الأُمم وأتباع الديانات السابقة، ويشهد لذلك قوله تعالي: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 28) (سبأ: 28)، وقوله تعالي: (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلي عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً 1) (الفرقان: 1).

ص: 131


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 169 - 171/ باب الاضطرار إلي الحجَّة/ ح 3).

ولمَّا سُدَّ باب النبوَّة وشُرِّعت الشريعة الخاتمة كان لا بدَّ من عناية خاصَّة تضمن بقاءها وإبعادها عن التحريف ما أمكن وإبقاء الشاهد علي سماويَّة هذه الدعوة والبرهان القاطع علي ذلك، فوفَّرت الإرادة الإلهيَّة شاهد الحقِّ والمتمثِّل بالقرآن الكريم الذي اختلف عن كلِّ المعجزات بأنَّه شاهد في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فشهادته علي صدق النبيِّ (صلي الله عليه وآله) في قوله: إنَّه رسول من الله تعالي لم تُحدَّد في ظرف خاصٍّ، والعناية الإلهيَّة لخصوصيَّة أنَّه معجزة النبيِّ الخاتم حفظته من يد التلاعب والتحريف، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (صلي الله عليه وآله)) (الحجر: 9).

وجزئيّات الشريعة ومفرداتها التطبيقيَّة لا بدَّ أنْ تكون في عهدة جهة معصومة عن الزلل والخطأ، ممَّا يعني ضرورة وجود الحجَّة في كلِّ زمانٍ، فضياع الشرائع السابقة وتحريفها ليس في الأثر السلبي بمستوي حصول ذلك في الشريعة الإسلاميَّة، لا في طول المدَّة ولا في العموميَّةلكلِّ الناس((1)) ولا في عدد من يفترض أنْ يتَّبعها.

لكن ذلك لا يخرج عن كونه مؤيِّداً كالوجوه السابقة؛ لأنَّه مدخول بما ليس هذا محلُّ التعرُّض له.

ص: 132


1- ()1() إذ لم يثبت عالميَّة الشرائع السابقة، فقد ورد في الكتاب أنَّ عيسي (عليه السلام) كان رسولاً إلي بني إسرائيل (وَرَسُولاً إِلي بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ... وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (آل عمران: 49 و50)، علي أنَّ آباء النبيِّ (صلي الله عليه وآله) لم يكونوا من النصاري، ولو كانت شريعة عيسي (عليه السلام) عالميَّة بمعني ضرورة إيمان كلِّ الناس بها لما كان آباء النبيِّ (صلي الله عليه وآله) مؤمنين، وهو خلاف ما حُقِّق في علم الكلام من إيمان الأصلاب والأرحام التي تقلَّب فيها النبيُّ (صلي الله عليه وآله) والأئمَّة (عليهما السلام)، «أشهد أنَّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهَّرة» (مصباح المتهجِّد: ص 721). والنبيُّ الأكرم (صلي الله عليه وآله) قبل بعثته لم يكن من أتباع الشريعة العيسويَّة، ولو كانت تلك الشريعة عالميَّة بمعني أنَّها يجب الإيمان بها لما ساغ للنبيِّ (صلي الله عليه وآله) أنْ يتركها.

تراكم الاحتمال لا يجري في الوجوه العقليَّة:

إنَّ ضمَّ الاستدلالات العقليَّة غير القطعيَّة إلي بعضها لا تجري فيه قاعدة تراكم الاحتمال، فلو كان عندي دليلان عقليّان مثلاً علي ضرورة وجود إمام في كلِّ زمانٍ، ولم تكن بعض مقدّماتهما قطعيَّة، بل كانت ظنّيَّة، فنتيجة كلِّ دليل منهما الظنُّ الذي بمستوي الظنِّ بصحَّة تلك المقدّمة - هذا إذا كانت بقيَّة المقدّمات قطعيَّة -، فلو كان عندي دليل عقلي فيه خمس مقدّمات أربع منها قطعيَّة وواحدة ظنّيَّة بمستوي (80%)، فإنَّ حاصل الدليل بمقدّماته الخمس احتمال (80%) لا أكثر، وأمَّا لو كان الاحتمال في كلٍّ من اثنتين منها (80%) مع قطعيَّة المقدّمات الثلاث الأُخري فإنَّ حاصل الدليل بمقدّماته الخمس (64%).

فلو كان عندي دليلان عقليّان، بل أربعة أدلَّة عقليَّة كشف كلٍّ منهابمستوي (80%) مثلاً، فإنَّ تعدُّد هذه الأدلَّة لا يجعل الكشف أكثر من الكشف في أحدها فقط أي (80%)، ولا يحصل تراكم الاحتمال.

ولنُقرِّب ذلك بمثال حسّي أوَّلاً: لو كان لبيت جدار من أربع جهات، وأطللت عليه أربع مرّات كلَّ مرَّة من جهة من جهاته الأربع تريد أنْ تعرف أنَّ زيداً في الدار أو لا، ومن كلِّ إطلالة منها احتملت لمعطيات أنَّه موجود في الدار باحتمال (70%)، فلا فرق بين أنْ تطل مرَّة واحدة أو عشر مرّات. ولو جرت عمليَّة تراكم الاحتمال لكان الحاصل من أربع إطلالات الاحتمال المقابل لضرب (30%) في نفسه أربع مرّات، وهو (81 من عشرة آلاف)، والاحتمال المقابل لذلك هو (99.99%) والوجدان حاكم بأنَّ حاصل مجموع هذه الإطلالات الأربع لا يصل إلي ذلك المستوي.

ونفس الكلام يجري إذا أطلَّ أربعة أفراد كلٌّ من جهة فأخبروا جميعاً بأنَّ احتمال وجود زيد في الدار (80%)، فنتيجة هذه الإخبارات بتعدُّدها يبقي

ص: 133

بمستوي (80%) عند المخبرين أمَّا عند غيرهم فالاحتمال أقلّ بحسب العادة. وكيف كان فتعدُّد الإخبارات لا يجعل الاحتمال عند السامع أكثر من أعلاها، فلو أخبر ألف رجل ثقة بأنَّ احتمال وجود زيد في الدار بمستوي (80%) فالحاصل عند السامع ليس احتمالاً قابلاً لأنْ يتجاوز (80%) إذا كان مستنداً في كشفه إلي إخباراتهم فقط، والبحث فيه تفاصيل لا تناسب هذا المقام.

والأدلَّة العقليَّة بمثابة إطلالات علي الواقع من جهات مختلفة ومقاربات للحقيقة من نواحي متعدِّدة، وتعدُّد المقاربات لا يضيف قيمة احتماليَّة لأيّ منها أو لما يُستفاد من إحداها.

ضمُّ الوجه العقلي إلي الوجه النقلي لا يُقوّي احتماله:

إنَّ الاستدلال العقلي إمَّا أنْ يتمَّ - ولا ينفع في المجال الشرعي إلَّا إذا كان قطعيًّا((1)) - أو لا يتمُّ. فإذا لم يكن قطعيًّا كان احتماليًّا بالمعني الأعمّ من الظنِّ والوهم والشكِّ المنطقيّات. وهل ينفع الوجه العقلي الاحتمالي في تراكم الاحتمال إذا ضُمَّت إليه قرائن احتمالية أُخري غير عقليَّة؟

فلو فرضنا وجود احتمال كمعطي عقلي بمستوي (90%)، ثمّ أخبرني الثقة والذي نسبة المطابقة في خبره بمستوي (90%) مثلاً، فهل نتعاطي في المورد كما نتعاطي مع خبرين في عرض بعضهما ونسبة الإصابة والصدق في كلٍّ منهما (90%) أو لا؟

لو كان عندنا خبران بمستوي الكشف المزبور فإنَّ حاصل احتمال المطابقة

ص: 134


1- ()1() قد ينفع فيما إذا أورث الاطمئنان؛ إذ الاطمئنان حجَّة بدليل إمضاء السيرة، والسيرة قائمة علي العمل به، وقد ينفع فيما إذا أورث الظنَّ بناءً علي تماميَّة مقدّمات دليل الانسداد المشار إليه في كُتُب الأُصول. (المؤلِّف).

من ضميمة أحدها إلي الآخر هو ما قابل حاصل ضرب (10%) المقابل ل- (90%) في (10%) المقابلة في الخبر الآخر أي ما قابل (1%) وهو (99%).

ومعلوم أنَّ ضمَّ القرينة العقليَّة المفروضة في السطور السابقة إلي خبر نسبة صدقه (90%) لا يُولِّد احتمال مطابقة بنسبة (99%) والمسألة وجدانيَّة.

ثمّ إنَّ الاستدلال العقلي يُسقِط حتَّي مستوي الكشف الاحتمالي إذا وُجِدَ نقض عليه، فيكون وجوده كالعدم، فالعقل إنَّما يُدرِك الكلّيات، فإذا عثرنا علي نقض علي تلك الكلّيَّة المزعومة تبيَّن أنَّه لا وجود لتلك الكلّيَّةالعقليَّة، لا أنَّ القطع بها هو الذي ينتفي فيبقي الظنُّ أو الاحتمال، بل سيجزم بعدم صحَّتها.

نعم يبقي احتمال وجود المجزم به بواسطتها، لكن ليس علي أساس أنَّه مستفاد من هذه القاعدة العقليَّة التي ثبت بطلانها.

الإخبارات التي تقوّي بعضها هي المخبر بها بنحو الجزم:

إنَّ الإخبارات المتعدِّدة في عرض بعضها إنَّما تدعم بعضها البعض ويجعل المورد من موارد قاعدة تراكم الاحتمال إذا كان المخبر يُخبر بنحو البتِّ والجزم واعتماداً علي الحسِّ، أمَّا إذا جاءك خمسة أشخاص أخبروك بحدوث قضيَّة معيَّنة ولكن ذلك كان بنحو الاحتمال أو حتَّي الظنَّ لا الجزم، فقال الأوَّل: أحتمل بنسبة (70%) أنَّه قد حصل الأمر الكذائي، ثمّ جاءك الثاني فأخبرك بخبر مماثل، وهكذا إلي الخامس، فإنَّ ضمَّ الإخبارات إلي بعضها لا يزيد عن (70%)، بل ربَّما ينقص إذا كانت النسبة في صدقهم - أنَّهم (70%) - بمستوي (50%).

والمسألة غاية في الدقَّة حتَّي مع الأمثلة المقرِّبة.

وهناك تفاصيل أُخري لا تتناسب مع موضوعنا لتُبحَث فيه، رأينا أنَّ المناسب التجاوز عن التعرُّض لها، كما لو فرضنا أنَّ المخبرين اعتمدوا علي دليل عقلي لا علي الحسِّ، وكما لو أخبر عن حسٍّ عن إدراك عقلي.

ص: 135

بقي شيء وهو أنَّ المدرك الحسّي لا يكون إلَّا قطعيًّا عند مدركه، ولو لم يكن قطعيًّا فإنَّ ذلك سيكون من جانب غير حسّي، فلو رأيت رجلاً من بعيد ولم تعرف ملامحه وظننت أنَّه زيد باحتمال (75%)، فإنَّ إدراكك الحسّي قطعي، وهو وجود الرجل، والتطبيق علي زيد لم يكن حسّيًّا، ومن هنا أمكن أنْ لا يكون قطعيًّا.

ضعف دلالة آية لا ينعكس ضعفاً علي دلالة الرواية المرتبطة بها:

إنَّ كلَّ آية من الآيات التي قيل: إنَّ فيها دلالة بنحو ما علي المطلب المذكور وإنْ لم نقبل بها كدليلٍ مستقلٍّ، لكنَّها إنْ لم تكن ظاهرة فيه فلا أقلَّ من احتمال إرادته منها كمدلول مطابقي أو حتَّي التزامي لها، فهي كاشفة عنه بمستوي معيَّن من الكشف لا يصل إلي مستوي الظهور (الظنِّ).

خذ لذلك مثلاً قوله تعالي: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (الإسراء: 71)، فلفظة (كُلَّ) ظاهر في التعميم، فاحتمال إرادة العموم الحقيقي لكلِّ جيل من البشر ربَّما كان بمستوي (70%) أو أكثر حتَّي، ولم نقل: (100%) لأنَّ لفظة (كُلَّ) ليست نصًّا في التعميم، فلذا إذا جاء دليل مخصِّص يُخرج طائفة من الأُمَم أو الأجيال لم يكن منافياً ومعارضاً بالتعارض المستقرِّ للفظ (كُلَّ) في الآية.

ولفظة (إِمامِهِمْ) يُحتَمل فيها الإمام الأعمّ من إمام الحقِّ أو الباطل، لكن احتمال إمام الحقِّ عالٍ علي الاحتمال الآخر، فإمام الباطل قد يقال: إنَّه ليس إماماً في نظر المتكلِّم وهو الله تعالي، بل هو إمام وفق نظرهم، ولنفرض أنَّ كاشفيَّة لفظة إمامهم عن إمام الحقِّ كان بمستوي (60%).

والإمام المعنيُّ يحتمل أنْ يُراد به الإمام الذي يكون بين ظهرانيِّهم ومزامناً لهم، ويحتمل أنْ يُراد به ما كان إماماً لهم واقعاً أو وفق زعمهم ولو لم يكن مزامناً

ص: 136

لهم، كما نقول: إمامنا عليٌّ (عليه السلام) مع أنَّه لم يُحْيَ في زماننا، ولنفرض أنَّ احتمال إرادة الإمام الذي بين ظهرانيِّهم كان بمستوي (50%).

وهذا يُؤدّي بنا إلي أنَّ كاشفيَّة الآية عن ضرورة وجود إمام في كلِّزمانٍ سيكون حاصل تماميَّة هذه الدلالات الثلاث معاً، وهو وفق قاعدة حساب الاحتمال عبارة عن حاصل ضرب الكاشفيّات الثلاثة (70%) * (60%) * (50%)، والذي يساوي (21%) وربَّما أقلّ.

إذن فاحتمال إرادة المعني المطلوب كان بمستوي ضعيف يمنع من الاستناد إلي هذه الآية كدليلٍ مستقلٍّ لإثبات ضرورة وجود إمام في كلِّ زمانٍ.

ثمّ ننتقل إلي الآية الثانية والثالثة والرابعة وجميع الآيات ليس فيها مضعِّف احتمالي من جهة الصدور، بل مضعِّفها الاحتمالي مقتصر علي الدلالة؛ لأنَّ صدورها قطعي كشأن كلِّ آيات الكتاب الكريم.

ويكفينا لإثبات المطلب الجزم بإرادة المعني المبحوث عنه في المقام أو الدلالة عليه ولو بالالتزام بواسطة آية واحدة لا علي التعيين، أي نعلم إجمالاً بأنَّ هذا المعني تكشف عنه آية ما من مجموع هذه الآيات وإنْ لم نجزم بواحدة بخصوصها.

والطريق إلي ذلك ضمُّ هذه القرائن الاحتماليَّة إلي بعضها، فإنْ أوصلتنا إلي الجزم بالمعني المقصود ثبت المطلوب بهذا العلم الإجمالي بلحاظ الآية، والتفصيلي بلحاظ نوع الدلالة القرآنيَّة.

فإذا كان عندنا عشر آيات كاشفيَّة كلٍّ منها عن هذا المعني بمستوي (20%)، فنوع الدلالة القرآنيَّة علي ذلك تكون بمستوي الاحتمال المقابل لحاصل ضرب الاحتمالات المخالفة لكلِّ الآيات في بعضها، أي ما قابل احتمال ضرب (80*80*80*80*80*80*80*80*80*80) وهو بمستوي (10.7374%) تقريباً، وما قابله (89.2%) تقريباً.

ص: 137

وبنفس الطريقة تجري الحسابات إذا كانت الاحتمالات مختلفة عمَّاسبق، فلو كان الكشف الاحتمالي في الآيات جميعاً بمستوي (30%) لكان كشف المجموع من عشر آيات ما قابل ضرب الاحتمال المقابل فيها وهو (70%) في نفسه بعدد الآيات وليكن عددها عشراً وحاصل الضرب هذا هو (2.8%) تقريباً، فيكون احتمال الموافقة في أحدها غير المعيَّن بمستوي (97.2%) تقريباً، وهو احتمال كبير جدًّا.

أمَّا لو كان مستوي الكشف الموافق مختلفاً في الأدلَّة أو بتعبير أدقّ لم يكن الكشف الموافق متساوياً في كلِّ الآيات، فإنّا لا نرجع إلي المعدل الكشفي ثمّ نجري عليه العمليَّة السابقة، بل لا بدَّ من ضرب احتمال المخالفة في كلِّ دليل باحتمال المخالفة في الثاني ثمّ الثالث وهكذا حتَّي نصل إلي النتيجة النهائيَّة، ثمّ نأخذ مخالفها وهو احتمال الموافقة في المجموع كما فعلنا في المثالين السابقين.

وإنَّما منعنا من أخذ المعدَّل الكشفي لاختلاف نتيجته عن نتيجة ملاحظة كلِّ احتمال، فضرب (5*5*3*3) لا يساوي حاصل ضرب (4*4*4*4)؛ إذ ناتج الأوَّل هو (225) وناتج الثاني (256)، مع أنَّ معدَّل (5 و5 و3 و3) هو (4).

وإذا أردنا مثالاً مختصراً فحاصل ضرب (5*3) وهو (15) لا يساوي حاصل ضرب المعدَّل بنفسه وهو (4*4)؛ لأنَّه يساوي (16).

ومن هنا لم يجز الاعتماد علي المعدَّل مضروباً في نفسه بعدد المرّات.

فضرب المعدَّل في نفسه مكرَّراً أكثر دائماً من ضرب الأعداد المتفاوتة والتي كان معدَّلاً لها، ولنحصر كلامنا في رقمين، ومن خلال الحديث عنهما يتبيَّن وجه الفرق لو كان عندنا أعداد متعدِّدة، والقاعدة أنَّالفرق بين أحد العددين والمعدَّل إنْ كان واحداً أو اثنين أو ثلاثة...، فإنَّ الفرق بين ضرب العددين وضرب المعدَّل في نفسه مرَّة يساوي الفرق مربَّعاً أي مضروباً في نفسه، فضرب

ص: 138

(20*20=400)، والعشرون معدَّل ل- (19 و21) ول- (18 و22) ول- (17 و23) ول- (16 و24) ول- (15 و25) وهكذا.

وحاصل ضرب (19*21) هو (399)، وفرقه عن ضرب المعدَّل (20) في نفسه هو (1)، والواحد هو التفاوت بين (19 و20)، وهو مقدار التفاوت بين (21 و20).

وحاصل ضرب (18*22) هو (396)، وفرقه عن ال- (400) هو (4) التي هي حاصل ضرب (2*2)، واثنان هي التفاوت بين (18 و20) أو بين (22 و20).

وحاصل ضرب (17*23) هو (391)، وهو أقلّ من ال- (400) ب- (3) * نفسها أي تسعة.

وحاصل ضرب (16*24) هو (384)، وهو أقلّ من ال- (400) ب- (4) * نفسها أي (16).

وحاصل ضرب (15*25) هو (375)، وهو أقلّ من ال- (400) ب- (5*5) أي (25) وهكذا، هذه هي القاعدة.

أمَّا برهانها والدليل عليها، فهو:

إذا فرضنا أنَّ المعدل بين العددين هو (س)، فحاصل ضرب المعدَّل في نفسه هو (س2)، وإذا فرضنا أنَّ الفرق بين العدد والمعدَّل هو (أ)، فالعددان اللذان يُراد ضربهما ببعضهما لا بدَّ أن يكونا (س - أ) و(س + أ)، وحاصل ضربهما هو (س2 + أس - أس - أ2)، وهو يساوي (س2 -أ2).

وهذا يعني أنَّ حاصل ضرب العددين في بعضهما أقلّ دائماً من حاصل ضرب معدَّلهما في نفسه بالفارق بين العدد والمعدَّل مضروباً في نفسه، والمثال المتقدِّم يكفي للتوضيح.

ص: 139

ولا تجري هذه القاعدة فيما إذا كانت الأعداد ثلاثة أو أكثر، وكلَّما كانت الأعداد أكثر ازداد الاختلاف بين ضربها جميعاً ببعضها وضرب المعدَّل في نفسه مكرَّراً بعددها، لكنَّها لا تخرج عن كون حاصل ضربها جميعاً أقلّ من حاصل ضرب معدَّلها في نفسه مكرَّراً بعددها.

وهنا لا ينفع مجرَّد هذا الاحتمال حتَّي في ما يقبل التعبُّد كالفروع في الفقه وكتفاصيل الاعتقاد علي نظر مشهور، بل لا بدَّ من القطع، فالقطع حجَّة في كلِّ موارده والظنُّ ليس حجَّة إلَّا فيما دلَّ الدليل علي حجّيَّته وكان المورد قابلاً للتعبُّد بالظنِّ فيه، وضمُّ القرائن الاحتماليَّة لا دليل علي الحجّيَّة التعبُّديَّة فيه، والمفروض انتفاء الحجّيَّة الذاتيَّة؛ لأنَّه ليس قطعاً. إلَّا أنَّ ذلك لا يعني سقوطه عن الانتفاع؛ إذ يمكن أنْ ينفعنا كقرينة احتماليَّة قويَّة تدعم القرائن الأُخري التي تأتي من الروايات. ولا شكَّ أنَّها تُقرِّب حصول القطع أو ما يقرب منه جدًّا جدًّا بالأقلّ، والذي لا يُعتني بمخالفه أو لا يُلتَفت إليه لشدَّة ضعفه.

إنَّ استعمال نظريَّة تراكم الاحتمال والتي مفرداتها دلالات لفظيَّة وكاشفيَّة الدليل اللفظي ليس بالأمر السهل، وليس تحقيق جزئيّاتها ومستوي الدلالات فيها بالممكن علي مستوي الدقَّة التي تحتاجها العمليَّة الرياضيَّة، والسبب أنَّ وجود احتمال إرادة معني من المعاني من لفظ من الألفاظ يُمثِّل هذا الاحتمال حالة وجدانيَّة عند من يعرف علاقات الألفاظ بالمعانيومساحة استعمالها فيها، ومثل هذه الحالة لا يمكن للنفس أنْ تراها بدقَّة وفق الكشف، فلا يمكن لنا بسهولة أنْ نقول: إنَّ احتمال إرادة هذا المعني من اللفظ الكذائي في المورد الكذائي هو (10%) أو (20%) علي وجه الدقَّة، فذلك أمر لم تتوفَّر مقدّماته للنفس، ولن تتوفَّر بالمستوي الذي يُحدِّد الاحتمال بالدقَّة، وكلُّ الذي يقدر عليه حتَّي المتضلِّع في اللغة أنْ يأتي باحتمال تقريبي لا دقّي.

ص: 140

وهذا جارٍ في كلِّ العمليّات الاستظهاريَّة، كظهور الحال، وكثير من التحليلات السياسيَّة وتحليل القضايا الاجتماعيَّة، فإنَّها جميعاً يحصل فيها عادةً إدراكات وجدانيَّة ربَّما تكون مستندة إلي مقدّمات ليست قطعيَّة، ولا تكون الكثير منها قابلة للتحديد الدقيق، فتكون النتائج في الكشف تقريبيَّة، ولا أقلَّ من عموم ذلك في الاستظهارات سواء كان موردها دلالات الألفاظ أو الحال.

إلَّا أنَّ ذلك لا يُسقِطها عن الفائدة والاعتبار؛ إذ يمكن للباحث أنْ يأخذ الاحتمال المتيقَّن، فإذا كان تقريباً (30%) فإنَّ المتيقَّن تحقُّق (25%) من الكشف؛ إذ يجزم بأنَّ الاحتمال لا يقلُّ عن (25%)، وذلك لا ينافي عدم جزمه بتوفُّر (30%).

إنَّ كلامنا في تراكم الاحتمال له مجال إذا لم يرد نقض علي ذلك الكشف، فمثلاً إذا ورد دليل كشف عن ضرورة وجود إمام أو حجَّة في كلِّ زمانٍ، ثمّ ورد ما يُثبِت عكس ذلك كما في خبر قطعي الصدور قطعي الدلالة، وكان مدلوله خلوّ مرحلة زمانيَّة ما من حجَّة أو نبيٍّ، فإنَّه حينها لا تبقي كاشفيَّة معتدٌّ بها لذلك الدليل علي ضرورة وجود إمام في كلِّ زمانٍ، بل تبطل تلك الدلالة وتكون كالعدم، بل حتَّي ولو كانت كاشفيَّته لولاالقرينة الخارجيَّة المتمثِّلة بالناقض مثلاً بمستوي الاطمئنان أو بمستوي (99%) مثلاً، ولذا كان في موارد القياس التي يحصل فيها كشف كبير جدًّا لولا القرينة الخارجيَّة تُبيِّن بطلان ذلك الكشف وانتفاؤه إذا أخبر الإمام المعصوم بخلافه.

ومثاله الواضح قضيَّة أبان بن تغلب والإمام الصادق (عليه السلام) في دية قطع ثلاثة من أصابع المرأة المساوية لدية قطع ثلاثة أصابع للرجل، ودية قطع أربعة أصابع للمرأة والتي هي نصف دية قطع أربعة أصابع للرجل، فهي أقلّ من دية قطع ثلاثة أصابع منها.

ص: 141

والقياس الذي استند إليه أبان حتَّي وصف هذا الحكم الذي بلغه بأنَّه قد جاء به شيطان، لكن حين أخبره الإمام (عليه السلام) عن بطلان هذا القياس انتفي الكشف المعتبر به، بل انتفي الكشف مع ملاحظة بيان الإمام (عليه السلام)((1)).

وليس في ذلك خروج عن القاعدة العقليَّة المتمثِّلة بتراكم الاحتمال؛ لأنَّ القرينة الأُخري المتمثِّلة بالنقض مثلاً قد أسقطت القيمة الاحتماليَّة لهذه المفردة.

نعم، قد يكون دور القرينة المنفصلة إبطال الظهور في جهة معيَّنة أو فرد من الأفراد دون بقيَّة الأفراد، كما لو قال لك شخص: جاء كلُّ الطُّلّاب، وعلمت بأنَّ زيداً منهم لم يأتِ، فإنَّ علمك بذلك أخرج زيداً عن عموم الطُّلّاب، ولم يبطل ظهور كلام ذلك الشخص بالشمول لبقيَّة الطُّلّاب.

وهذا يستدعي ملاحظة ما يمكن أنْ يرد من مناقشة أو نقض عليدلالة كلِّ آية، لنري هل أنَّ ذلك يُبطِل أصل كشفها أو يُضعِّفه أو يُبطِل الكشف بالنسبة لفردٍ خاصٍّ أو حصَّةٍ خاصَّةٍ من الأفراد.

فمثل قوله تعالي: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ 24) (فاطر: 24) قد يقال: إنَّ لها ظهوراً في وجود نذير في كلِّ زمنٍ - علي بُعد نفس الآية - وإنْ دلَّت عليه الرواية التي رواها الكليني في الكافي((2))، وقد وردت آية أُخري في سورة يس: (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ 6) (يس: 6).

فمثل هذه الآية تُبطِل ظهور الآية الأُولي في الشمول لأجيال من قوم النبيِّ (صلي الله عليه وآله) ممَّن سبقوه، إلَّا أنَّ ذلك لا ينفي أو يُلغي ظهورها في بقيَّة الأجيال وبقيَّة الأُمَم، فتبقي مثل هذه القرينة المنفصلة المتمثِّلة بالآية التي في سورة يس والتي أتت بنقض علي المدلول الذي كانت آية سورة فاطر ظاهرة فيه غير ضارَّة

ص: 142


1- ()1() راجع: الكافي (ج 7/ص 299 و300/باب الرجل يقتل المرأة والمرأة تقتل الرجل.../ح 6).
2- ()1() راجع: الكافي (ج 1/ص 249 و250/باب في شأن إنّا أنزلناه في ليلة القدر.../ح 6).

بذلك الظهور، نعم أخرجت فرداً أو حصَّةً خاصَّةً منها، ولا يضرُّ هذا الخروج بقرينيَّة آية سورة فاطر علي وجود حجَّة أو نذير في بقيَّة الأُمَم علي امتداد الأزمنة المختلفة، والمسألة غاية في الدقَّة.

وما ذكرناه يفتح باباً واسعاً للاستفادة من الأدلَّة الشرعيَّة ولو لم تكن دلالتها تامَّة أو لم تكن لدلالتها حجّيَّة علي مطلب من المطالب الاعتقاديَّة. نعم، من الناحية التطبيقيَّة يستلزم ذلك دقَّة كبيرة ومتابعة جزئيَّة مستوعبة إلي حدٍّ بعيد كلِّ التفاصيل فيما ذُكِرَ من الأدلَّة والشواهد والمؤيِّدات لمثل هذا المطلب.

الروايات الواردة في تفسير بعض الآيات قرينة احتماليَّة:

إنَّ من الروايات التي يمكن الاستفادة منها في إثبات ضرورة وجود حجَّة أو إمام في كلِّ زمانٍ، والروايات الواردة في بيان أنَّ المراد من آيات معيَّنة ذلك وهي الآيات التي قيل: إنَّها دالَّة علي ذلك، وعدم تماميَّة دلالة الآيات المذكورة علي ذلك لا يعني سقوط هذه الروايات عن الاستفادة هنا، فإنَّ دلالة هذه الروايات وتماميَّة تلك الدلالة علي ذلك المدَّعي غير متفرِّعة علي تماميَّة تلك الآيات في دلالتها.

وهذا يعني أنَّ الإشكال علي دلالة الآيات لا ينعكس علي دلالة تلك الروايات، فإنَّ هذه الروايات لها دلالتها المستقلَّة وإنْ وردت في تفسير تلك الآيات، فلا يُعتَبر اختلافها في الدلالة عن ما دلَّ عليه ظاهر الآيات مأخذاً علي دلالتها، بل قد تكون دالَّة علي المعني المراد من الآية ولو لم تكن الآية ظاهرة فيه، هذا إذا كانت واردة في مقام تفسير الآية، وهذا يعني أنَّ الرواية يمكن أنْ تكون مؤثِّرة في توجيه دلالة الآيَّة ولو علي خلاف ظاهرها. فكيف تكون دلالتها متفرِّعة علي تمامية دلالة الآية علي ذلك المعني؟ وظهور الآيات إنَّما يكون مرجعاً

ص: 143

في تحديد المعني المراد منها إذا لم ترد قرينة علي الخلاف تمنع من التمسُّك بذلك الظهور، كالقرينة العقليَّة والرواية الصادرة من المعصومين (عليهما السلام).

ومثال القرينة العقليَّة ما ثبت بواسطة العقل أنَّ الله تعالي ليس له جسم وأعضاء، فهي مانعة من الالتزام بظاهر قوله تعالي:

(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح: 10).

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (القلم: 42).

(وَيَبْقي وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ 27) (الرحمن: 27).

وهي الظاهرة في أنَّ له يداً ورجلاً ووجهاً.وبعد هذا أتري مناسباً للإنصاف أنْ يُشكِّك منتحل بهذا المذهب في حصول التواتر علي ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه ولو علي بعض المباني؟ ما لكم كيف تحكمون؟!

ثبَّتنا الله بالقول الثابت في الدنيا والآخرة، إنَّه خير ناصر ومعين.

* * *

ص: 144

(3)التوقيعات المهدويَّةوإشكاليَّة عدم الصدور

اشارة

ص: 145

ص: 146

مقدّمة:

إنَّ طلب المعرفة في النوع البشري شيء جبلّي ما دام له عقل يُفكِّر به وله حواسٌّ تُزوِّده بموادٍّ خامٍّ لهذا المصنع لينتج منها معلومات جديدة، هذا هو ديدن البشر، عطشه للمعرفة لا ترويه رشفة معلومات ولا قدح معرفة ولا نهر اطِّلاع، وسعته أشبه باللانهائيّات، فهو والاستزادة في العلم كعاشق لا تُقنِعه ساعة وصال.

هكذا أراده الله تعالي، ولولا أنَّه كذلك لتخلَّف عن غاية أُريدت له من خلقته قضت الحكمة أنْ يقطع أجزاء طريقها باختياره، فكان تكوينه معيناً للتشريع، ونوازعه دابَّة للمسير، ومستشاره العقل، يستفيد من مقدّمات برهانيَّة ومعلومات بديهيَّة ودلالات خارجيَّة يُشكِّل الوحي جزءاً مهمًّا منها، إذ يُقدِّم له صورة عن الكون الذي يعيش فيه، ومبدأه ومنتهاه، وإطاراً عامًّا للتحرُّك، وبياناً تفصيليًّا لكثير من الجزئيّات، ونبذة عن تجارب الأُمَم ومآلاتها، ومسيرة ومواقف الأفراد ودلالاتها.

إنَّ منطلق العلم هو الشكُّ عادةً، باستثناء الأنبياء والرُّسُل (عليهما السلام)، كما في قوله تعالي بحقِّ عيسي (عليه السلام): (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا 29 قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30 وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا 31 وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا 32 وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا 33) (مريم: 29 - 33).وكالنبيِّ يحيي (عليه السلام) وقد قال تعالي عنه: (يا يَحْيي خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا 12) (مريم: 12).

ص: 147

لكن طلب المعرفة لا يتوقَّف حتَّي بعد بلوغ مرتبة النبوَّة، وقصَّة النبيِّ موسي (عليه السلام) مع الخضر (عليه السلام) لا غبار في دلالتها علي ذلك: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً 65 قالَ لَهُ مُوسي هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلي أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً 66) (الكهف: 65 - 66).

ولم يشأ النبيُّ موسي (عليه السلام) أنْ يفارقه حتَّي قال له الخضر (عليه السلام): (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً 78) (الكهف: 78).

ومطلوبيَّة التفكُّر تشمل كلَّ البشر بما في ذلك أعاظم الأنبياء (عليهما السلام)، وهو تفكُّر لا تذكُّر، والتفكُّر به يُكشَف ستر المستور ويُعلَم من خلاله المجهول.

وها هو الخطاب القرآني للنبيِّ (صلي الله عليه وآله) بأنْ يطلب من الله تعالي زيادة العلم: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضي إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً 114) (طه: 114).

فالإنسان مهما ارتقي في مضامير الكمال - ومنها مضمار العلم - لا يصل إلي حدِّها الأقصي، فالكمال ليس له حدٌّ، والبشر مخلوق ممكن محدود، وبين اللّامحدود والمحدود ما لا حدَّ له، وإلَّا لما كان لا محدوداً.

ويمكن أنْ تكون الآيات التي تحدَّثت عن علم الله تعالي بكلِّ شيء وإحاطته بكلِّ شيء موجِّهة للإنسان الطالب للكمال العلمي إلي الله تعالي ومنبِّهة له أنَّ مطلوبه إنَّما هو الله تعالي، ففيه العلم غير المحدود والإحاطة بكلِّ شيء.(وَلِلهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً 126) (النساء: 126).

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلي كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 53) (فُصِّلت: 53).

وربَّما سار البحث عن الدليل مساراً خاطئاً، كمن تمَّت عنده المعلومة فيبدأ بالتبطُّر في طلب الدليل، كما فعل الحواريُّون حين سألوا النبيَّ عيسي (عليه السلام) إنزال

ص: 148

المائدة: (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 112) (المائدة: 112).

ولأنَّ طلبهم لم يكن موضوعيًّا ردعهم النبيُّ عيسي (عليه السلام) وأمرهم بالتقوي وقيَّد ذلك بصورة كونهم مؤمنين، حتَّي إذا ألحُّوا طلب من الله تعالي إنزال المائدة بأدبه الراقي: (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ 114) (المائدة: 114).

وحين استجاب الله تعالي له اقترن ذلك بوعيد شديد لمن يكفر بعد ذلك منهم: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ 115) (المائدة: 115).

وقد يُشكِّك الإنسان فيما كان واضحاً أو حتَّي فيما كان يُفتَرض أنْ يكون كذلك، فيكون ذلك موجباً للإنكار: (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرضِ) (إبراهيم: 10).

وقد يأخذه العناد إلي حدٍّ بعيد فيلغي احتمال الإيمان والإذعان ولو اجتمع عنده أقوي الشواهد، قال تعالي: (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتي وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَاللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ 111) (الأنعام: 111).

وليس بعيداً عن هذا ما جاء في سورة الإسراء: (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّي تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرضِ يَنْبُوعاً 90 أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً 91 أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً 92 أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقي فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّي تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً 93) (الإسراء: 90 - 93).

ص: 149

وبين هذا وذاك تأتي البيانات والأدلَّة والآيات، وفائدتها في الحدِّ الأدني إتمام الحجَّة علي الناس (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيي مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ 42) (الأنفال: 42).

وقد كثرت التساؤلات في أيّامنا هذه - حيث تيسَّر التواصل بين الحضارات - عن مفردات الشريعة أُصولاً وفروعاً، دليلاً ومدلولاً.

وقد حظيت القضيَّة المهدويَّة بسهم وافر من هذه التساؤلات وحصَّة كبيرة من الإشكالات، ومن تلك التساؤلات ما يرجع إلي التوقيعات الشريفة التي خرجت من الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه، وربَّما وَجَدَت هذه التساؤلات صدي لها عند أتباع المذهب من العوامِّ. فقد قيل: كيف يُعرَف أنَّ هذا هو خطُّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه؟ وقيل: كيف نقبل بقول السفراء؟ وما إلي ذلك.

ونحن في هذه الوريقات نحاول أنْ نُسلِّط الضوء علي ما نري أنَّه يُمثِّل جواباً لهذه التساؤلات، نسأل الله أنْ يُوفِّقنا لقول الحقِّ والعمل به، وأنْ يجعل التسديد رفيقنا، إنَّه خير مسؤول.

كيف نجي السفراء من متابعة الدولة العبّاسيَّة؟

من الأسئلة التي تتوارد بخصوص السفراء وتداولتها أخيراً بعض وسائل التواصل الاجتماعي: كيف أمكن للسفراء العمل في ظلِّ وجود الدولة العبّاسيَّة، رغم أنَّ العبّاسيِّين كانوا يبحثون عن أيِّ خيط يوصلهم إلي الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه والشريفه؟ فهل يُعقَل أنْ يعمل السفراء بحرّيَّة رغم أنَّهم كانوا معروفين في الأوساط العامَّة ولا تتبعهم السلطة العبّاسيَّة ليصلوا من خلالهم إلي الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه؟ ألَا يوجب ذلك احتمال كونهم علي علاقة مع السلطة وأنَّهم لم يكونوا يلتقون بالإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه؟ هذا مع ملاحظة أنَّ السفارة استمرَّت ما يقرب من سبعين سنة.

ص: 150

والجواب:

أوَّلاً: أنَّ ذلك الاستبعاد كان مبتنياً علي الأسباب الطبيعيَّة وقطع ربط المسألة بالأسباب الغيبيَّة، ولا شكَّ أنَّ هذه المسألة مرتبطة بالغيب، والغيب وإنْ أخرج المسألة عن الأسباب المألوفة إلَّا أنَّه لا يُخرجها عن السببيَّة، وهو تعالي مسبِّب الأسباب.

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 82) (يس: 82).

(وَاللهُ غالِبٌ عَلي أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 21) (يوسف: 21).

(إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً 3) (الطلاق: 3).

وقد تولّي الله تعالي الدفاع عن المؤمنين حين قال: (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ 38) (الحجّ: 38).

حين اقتضت الحكمة أنْ يُبعَث في بني إسرائيل نبيٌّ وعَلِمَ فرعون بذلك طافت زبانيته في بيوت بني إسرائيل يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، في وقت كان هو الذي يتولّي رعاية ذلك النبيِّ؛ إذ اتَّخذوه ولداً،وقبل ذلك أخفي علامة حمله إلي ليلة الولادة كما حصل ذلك أيضاً مع الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه والشريفه حيث نُقِلَ جدُّه الإمام الهادي (عليه السلام) إلي سامراء تحسُّباً لمجيء الإمام الثاني عشر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً.

حين اقتضت الإرادة الإلهيَّة أنْ يبقي النبيُّ يونس (عليه السلام) حيًّا في بطن الحوت بقي تطوف به البحار، مع أنَّ ذلك أغرب من أنْ يُربّي طاغوت عدوَّه دون أن يعلم.

حين اقتضت الحكمة أنْ يُبعَث عُزير من الموت عاد إلي الحياة بعد عشرات السنين من الموت إلي الحياة. وهل لمؤمن أنْ يستبعد ذلك علي الله تعالي؟

وأغرب من قضيَّة عُزير ما حصل لأصحاب الكهف الذين ناموا لمدَّة

ص: 151

(ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً 25) (الكهف: 25)، لم يموتوا ولم تأكل الأرض أجسادهم، (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً 18) (الكهف: 18).

ثانياً: أنَّ التاريخ قد حفظ لنا حوادث عن أتباع الأنبياء والأولياء (عليهما السلام) ممَّن كانوا يعملون بقرب الطواغيت، وربَّما جاءت الأخبار عن البعض أنَّه من طائفة الأعداء، فمن غابر الأيّام يُحدِّثنا القرآن عن مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه: (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (غافر: 28).

ومن تاريخنا الحديث يُنقَل إلينا أنَّ المقاومة في الدول التي احتلَّتها ألمانيا في الحرب العالميَّة الثانية كانت تمارس العمل الثوري المسلَّح فيتلك الدول رغم وحشيَّة (الغستابو) في التعاطي مع المناوئين لهم، ورغم تطوُّر وسائل التجسُّس والمتابعة والإمكانات الهائلة، إلَّا أنَّ الكثير من هؤلاء الثوّار نجوا، بل وتطوَّر عملهم بشكل كبير إلي أنْ رأوا هزيمة النازيين وموت (هتلر) بعد أنْ وضعت الحرب أوزارها، وعمل هؤلاء كان مسلَّحاً، وعمل السفراء لم يكن فيه أيّ جانب عسكري، وأيّ نوع مقاومة مسلَّحة.

والمجموعات المسلَّحة التي كانت تناهض الشيوعيَّة في الاتِّحاد السوفيتي أيّام (ستالين) طال زمان عملها دون علم ال- (K(عليهما السلام)B) بها مع كلِّ الإمكانات المسخَّرة له. والمجموعات الجاسوسيَّة تجوب الدنيا لا تنجو منها حتَّي أقوي مخابرات العالم كال- ((عليه السلام)IA) وغيرها، مع وجود أقسام متخصِّصة في مكافحة التجسُّس، وكثير من الجواسيس لا يُكتَشف أمرهم إلي زمان انقضاء مهمّاتهم أو إلي أُخريات حياتهم.

وإذا رجعنا إلي التاريخ مرَّة أُخري نجد الروايات تحكي لنا عن عليِّ بن

ص: 152

يقطين صاحب الإمام الكاظم (عليه السلام)، وقد كان الوشاة يسعون به عند الرشيد لكن رعاية الإمام الكاظم (عليه السلام) له منعت أنْ يُوصَل إليه بسوء((1)).

وقد كان الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه يدفع أيضاً عن وكلائه، فقد روي الكليني (رحمه الله) عن الحسين بن الحسن العلوي، قال: كان رجل من ندماء روزحسني وآخر معه،

ص: 153


1- ()1() إنَّ هارون العبّاسي خلع علي عليِّ بن يقطين درّاعة خزٍّ سوداء من لباس الملوك مثقلة بالذهب، فأنفذها عليُّ )بن يقطين( إلي )الإمام( موسي بن جعفر (عليهما السلام) مع مال كثير، فردَّ الدرّاعة إلي عليِّ ابن يقطين، وقال: «احتفظ بها فإنَّك تحتاج إليها»، فبعد أيّام صرف عليُّ بن يقطين خاصًّا له عن خدمته، )وكان( يعرف ميله إلي موسي (عليه السلام)، فسعي به إلي الرشيد، فقال: إنَّه يقول بإمامة موسي ابن جعفر، وقد بعث بتلك الدرّاعة إليه، فغضب الرشيد )من ذلك(، فقال: لأكشفنَّ عن ذلك، فأحضر عليُّ بن يقطين وقال: ما فعلت بالدرّاعة التي كسوتك )بها(؟ قال: هي عندي في سفط، قال: أحضرها، فقال لغلامه: امض إلي داري وخذ السفط الذي في )الصندوق في( البيت الفلاني بختمي فجئني به، )فمضي الغلام وأحضر السفط، ففتحه(، فنظر الرشيد إلي الدرّاعة، فسكن من غضبه، وأعطاه جائزة أُخري، وضرب الساعي حتَّي مات. وروي أنَّ عليَّ بن يقطين كتب إلي )الإمام( موسي بن جعفر (عليه السلام): اختُلِفَ في (المسح علي الرجلين) فإنْ رأيت أنْ تكتب ما يكون عملي عليه فعلت، فكتب أبو الحسن (عليه السلام): «الذي آمرك به أن تتمضمض ثلاثاً، وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتُخلِّل شعر لحيتك، وتغسل يديك ثلاثاً، وتمسح رأسك كلَّه، وتمسح ظاهر أُذُنيك وباطنهما، وتغسل رجليك ثلاثاً، ولا تخالف ذلك إلي غيره»، فامتثل أمره وعمل عليه، فقال الرشيد )يوماً(: أُحِبُّ أنْ أستبرئ أمر عليِّ ابن يقطين، فإنَّهم يقولون: إنَّه رافضي والرافضة يُخفِّفون في الوضوء، )فطلبه(، فناطه بشيء من الشغل في الدار حتَّي دخل وقت الصلاة، فوقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يري عليَّ بن يقطين ولا يراه هو، وقد بعث إليه بالماء للوضوء، فتوضَّأ كما أمره موسي (عليه السلام)، فقام الرشيد وقال: كذب من زعم أنَّك رافضي، فورد علي عليِّ بن يقطين )بعد ذلك( كتاب موسي ابن جعفر (عليه السلام): «من الآن توضَّأ كما أمر الله: اغسل وجهك مرَّة فريضة وأُخري إسباغاً، واغسل )يديك( من المرفقين كذلك، وامسح مقدَّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما يُخاف عليك». الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 334 - 336/ ح 25 و26).

فقال له: هو ذا يجبي الأموال وله وكلاء وسمُّوا جميع الوكلاء في النواحي، وأُنهي ذلك إلي عبيد الله بن سليمان الوزير، فهمَّ الوزير بالقبض عليهم، فقال السلطان: اطلبوا أين هذا الرجل، فإنَّ هذا أمر غليظ، فقال عبيد الله بن سليمان: نقبض علي الوكلاء، فقال السلطان: لا، ولكن دسُّوا لهم قوماً لا يُعرَفون بالأموال، فمن قبض منهم شيئاً قُبِضَ عليه، قال: فخرج بأنْ يتقدَّم إلي جميع الوكلاء أنْ لا يأخذوا من أحد شيئاً، وأنْ يمتنعوا من ذلك، ويتجاهلوا الأمر، فاندسَّ لمحمّد بن أحمد رجل لا يعرفه وخلا به،فقال: معي مال أُريد أنْ أُوصله، فقال له محمّد: غلطت أنا لا أعرف من هذا شيئاً، فلم يزل يتلطَّفه ومحمّد يتجاهل عليه، وبثُّوا الجواسيس، وامتنع الوكلاء كلُّهم لما كان تقدَّم إليهم((1)).

وروي (رحمه الله) عن الحسن بن الفضل بن زيد اليماني، قال: كتب أبي بخطِّه كتاباً فورد جوابه، ثمّ كتبت بخطّي فورد جوابه، ثمّ كتب بخطِّ رجل من فقهاء أصحابنا فلم يرد جوابه، فنظرنا فكانت العلَّة أنَّ الرجل تحوَّل قرمطيًّا((2)).

وروي (رحمه الله) عن عليِّ بن محمّد، قال: خرج نهي عن زيارة مقابر قريش والحير((3))، فلمَّا كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي، فقال له: الق بني الفرات والبرسيين((4))، وقل لهم: لا يزوروا مقابر قريش، فقد أمر الخليفة أنْ يُتفقَّد كلُّ من زار فيُقبَض )عليه(((5)).

والرواية صحيحة.

ثالثاً: أنَّ السفراء كانوا يعملون بطريقة مدروسة مُحْكَمة لدفع أنظار

ص: 154


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 525/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 30).
2- ()2() الكافي (ج 1/ ص 520/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 13).
3- ()3() في بعض النُّسَخ: (الحائر).
4- ()4() برس: ناحية بأرض بابل. (معجم البلدان: ج 1/ ص 103).
5- ()5() الكافي (ج 1/ ص 525/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 31).

الظالمين عنهم، فقد أخفوا عملهم إلَّا عن الثُلَّة القليلة المخلصة ممَّن يُطمَأنُّ لهم وعرفوا منهم صدق الولاء.

ومضافاً إلي ذلك كانت لهم مجموعة خطوات هامَّة:

منها: أنَّهم نقلوا عملهم من سامراء عاصمة الدولة العبّاسيَّة آنذاك إلي بغداد، وكان بُعد المسافة بين المدينتين كفيلاً بتخفيف المتابعة لهم.ومنها: أنَّهم قد تخفُّوا ببعض العناوين الأُخري، فالسفير الأوَّل كان سمّاناً، أي يمتهن بيع السمن.

ومنها: أنَّهم كانوا يعملون بالتقيَّة، خصوصاً عند اشتداد الأمر عليهم، وهذا ما حفظته الروايات عن السفير الثالث الحسين بن روح 2.

فقد نقل الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) من الوقائع التي استعمل فيها بعض السفراء التقيَّة، ولذا كان في موقع جليل حتَّي عند العامَّة، فقد قال:

وكان أبو القاسم (رحمه الله) من أعقل الناس عند المخالف والموافق، ويستعمل التقيَّة، فروي أبو نصر هبة الله بن محمّد، قال: حدَّثني أبو عبد الله بن غالب حمو أبي الحسن بن أبي الطيِّب، قال: ما رأيت من هو أعقل من الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، ولعهدي به يوماً في دار ابن يسار، وكان له محلٌّ عند السيِّد والمقتدر عظيم، وكانت العامَّة أيضاً تُعظِّمه، وكان أبو القاسم يحضر تقيَّةً وخوفاً.

وعهدي به وقد تناظر اثنان، فزعم واحد أنَّ أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله) ثمّ عمر ثمّ عليّ، وقال الآخر: بل عليٌّ أفضل من عمر، فزاد الكلام بينهما.

فقال أبو القاسم 2: الذي اجتمعت الصحابة عليه هو تقديم الصدِّيق، ثمّ بعده الفاروق، ثمّ بعده عثمان ذو النورين، ثمّ عليٌّ الوصيِّ، وأصحاب الحديث علي ذلك، وهو الصحيح عندنا، فبقي من حضر المجلس متعجِّباً من

ص: 155

هذا القول، وكان العامَّة الحضور يرفعونه علي رؤسهم، وكثر الدعاء له والطعن علي من يرميه بالرفض.

فوقع عليَّ الضحك، فلم أزل أتصبَّر وأمنع نفسي وأدسُّ كُمّي فيفمي، فخشيت أنْ أفتضح، فوثبت عن المجلس، ونظر إليَّ ففطن بي، فلمَّا حصلت في منزلي فإذا بالباب يُطرَق، فخرجت مبادراً، فإذا بأبي القاسم الحسين بن روح 2 راكباً بغلته قد وافاني من المجلس قبل مضيِّه إلي داره.

فقال لي: يا أبا عبد الله، أيَّدك الله، لِمَ ضحكت، فأردت أنْ تهتف بي كأنَّ الذي قلته عندك ليس بحقٍّ؟

فقلت: كذاك هو عندي.

فقال لي: اتَّق الله أيُّها الشيخ فإنّي لا أجعلك في حلٍّ، تستعظم هذا القول منّي.

فقلت: يا سيِّدي، رجل يري بأنَّه صاحب الإمام ووكيله يقول ذلك القول لا يُتعجَّب منه و)لا( يُضحَك من قوله هذا؟

فقال لي: وحياتك لئن عدت لأهجرنَّك، وودَّعني وانصرف((1)).

وقال أبو نصر هبة الله: وحدَّثني أبو أحمد درانويه الأبرص الذي كانت داره في درب القراطيس، قال: قال لي: إنّي كنت أنا وإخوتي ندخل إلي أبي القاسم الحسين بن روح 2 نعامله، قال: وكانوا باعة، ونحن مثلاً عشرة تسعة نلعنه وواحد يُشكِّك، فنخرج من عنده بعدما دخلنا إليه تسعة نتقرَّب إلي الله بمحبَّته وواحد واقف، لأنَّه كان يجارينا من فضل الصحابة ما رويناه وما لم نروه، فنكتبه لحسنه عنه 2((2)).

ص: 156


1- ()1() الغيبة للطوسي (ص 384 و385/ ح 347).
2- ()2() الغيبة للطوسي (ص 386/ ح 349).

وفي الغيبة للطوسي: أخبرني جماعة، عن أبي عبد الله أحمد بن محمّد بن عيّاش، عن أبي غالب الزراري، قال: قَدِمْتُ من الكوفة وأنا شابٌّ إحدي قدماتي ومعي رجل من إخواننا قد ذهب علي أبي عبد اللهاسمه، وذلك في أيّام الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رحمه الله) واستتاره، ونصبه أبا جعفر محمّد بن عليٍّ المعروف بالشلمغاني، وكان مستقيماً لم يظهر منه ما ظهر (منه) من الكفر والإلحاد، وكان الناس يقصدونه ويلقونه لأنَّه كان صاحب الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح سفيراً بينهم وبينه في حوائجهم ومهمّاتهم.

فقال لي صاحبي: هل لك أنْ تلقي أبا جعفر وتُحدِث به عهداً، فإنَّه المنصوب اليوم لهذه الطائفة، فإنّي أُريد أنْ أسأله شيئاً من الدعاء يكتب به إلي الناحية.

قال: فقلت )له(: نعم، فدخلنا إليه، فرأينا عنده جماعة من أصحابنا، فسلَّمنا عليه وجلسنا، فأقبل علي صاحبي، فقال: من هذا الفتي معك؟

فقال له: رجل من آل زرارة بن أعين.

فأقبل عليَّ، فقال: من أيّ زرارة أنت؟

فقلت: يا سيِّدي، أنا من ولد بكير بن أعين أخي زرارة.

فقال: أهل بيت جليل عظيم القدر في هذا الأمر.

فأقبل عليه صاحبي، فقال له: يا سيِّدنا، أُريد المكاتبة في شيء من الدعاء.

فقال: نعم.

قال: فلمَّا سمعت هذا اعتقدت أنْ أسأل أنا أيضاً مثل ذلك، وكنت اعتقدت في نفسي ما لم أُبده لأحد من خلق الله حال والدة أبي العبّاس ابني، وكانت كثيرة الخلاف والغضب عليَّ، وكانت منّي بمنزلة، فقلت في نفسي: أسأل الدعاء لي في أمر قد أهمَّني ولا أُسمّيه، فقلت: أطال الله بقاء سيِّدنا، وأنا أسأل حاجة.

ص: 157

قال: وما هي؟

قلت: الدعاء لي بالفرج من أمر قد أهمَّني.

قال: فأخذ درجاً بين يديه كان أثبت فيه حاجة الرجل، فكتب: (و)الزراري يسأل الدعاء له في أمر قد أهمَّه.

قال: ثمّ طواه، فقمنا وانصرفنا، فلمَّا كان بعد أيّام قال لي صاحبي: ألَا نعود إلي أبي جعفر فنسأله عن حوائجنا التي كنّا سألناه، فمضيت معه ودخلنا عليه، فحين جلسنا عنده أخرج الدرج، وفيه مسائل كثيرة قد أُجيب في تضاعيفها، فأقبل علي صاحبي، فقرأ عليه جواب ما سأل، ثمّ أقبل عليَّ وهو يقرأ، )فقال:( «وأمَّا الزراري وحال الزوج والزوجة فأصلح الله ذات بينهما».

قال: فورد عليَّ أمر عظيم، وقمنا، فانصرفت.

فقال لي: قد ورد عليك هذا الأمر.

فقلت: أعجب منه.

قال: مثل أيّ شيء؟

فقلت: لأنَّه سرٌّ لم يعلمه إلَّا الله تعالي وغيري، فقد أخبرني به.

فقال: أتشكُّ في أمر الناحية؟ أخبرني الآن ما هو؟ فأخبرته، فعجب منه.

ثمّ قضي أنْ عدنا إلي الكوفة، فدخلت داري، وكانت أُمُّ أبي العبّاس مغاضبة لي في منزل أهلها، فجاءت إليَّ، فاسترضتني واعتذرت ووافقتني ولم تخالفني حتَّي فرَّق الموت بيننا... الخبر((1)).

والرواية وإنْ لم تكن تامَّة سنداً إلَّا أنّا أوردناها وما سبقها للاستشهادوليس للاستدلال.

وفي الكافي عن عليِّ بن محمّد، عن محمّد بن صالح، قال: لمَّا مات أبي

ص: 158


1- ()1() الغيبة للطوسي (ص 302 - 304/ ح 256).

وصار الأمر لي، كان لأبي علي الناس سفاتج من مال الغريم، فكتبت إليه أُعلمه، فكتب: «طالبهم واستقض عليهم»، فقضاني الناس إلَّا رجل واحد كانت عليه سفتجة بأربعمائة دينار، فجئت إليه أُطالبه، فماطلني واستخفَّ بي ابنه وسفَّه عليَّ، فشكوت إلي أبيه، فقال: وكان ماذا؟ فقبضت علي لحيته وأخذت برجله وسحبته إلي وسط الدار وركلته ركلاً كثيراً، فخرج بأنَّه يستغيث بأهل بغداد ويقول: قمّي رافضي قد قتل والدي، فاجتمع عليَّ منهم الخلق، فركبت دابَّتي وقلت: أحسنتم يا أهل بغداد تميلون مع الظالم علي الغريب المظلوم، أنا رجل من أهل همدان من أهل السُّنَّة، وهذا ينسبني إلي أهل قم والرفض ليذهب بحقّي ومالي. قال: فمالوا عليه وأرادوا أنْ يدخلوا علي حانوته حتَّي سكَّنتهم، وطلب إليَّ صاحب السفتجة وحلف بالطلاق أنْ يوفيني مالي حتَّي أخرجتهم عنه((1)).

وقد قال المجلسي (رحمه الله) في هذا الخبر: حسن كالصحيح((2)).

ويشهد لما ذكرناه من إعمال التقيَّة أنَّهم لم يكونوا معروفين عند عامَّة الشيعة، ولذا تجد عند تصفُّحك في الروايات أنَّ عامَّة الشيعة كانت تُكلِّف الخواصَّ أنْ تذهب بما عليها من الحقوق إلي سفراء الإمام ووكلائه.

ويظهر أيضاً للمتتبِّع في الروايات أنَّ الخواصَّ لم يكونوا يعرفون السفراء، ولذلك ما كانوا يُسلِّمون إليهم الأموال إلَّا بعد البيِّنة والاختبار، فإذا جاءهم منهم أمر بيِّن سلَّموا الأموال.

ولعدم وضوح الأمر عندهم ابتداءً كان البعض منهم يذهب إلي جعفر عمِّ الإمام حتَّي إذا لم يجدوا عنده ما يريدون امتنعوا عن تسليمه الأموال وذهبوا إلي مظانٍّ أُخري حتَّي يقعوا علي مبتغاهم.

ص: 159


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 521 و522/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 15).
2- ()2() مرآة العقول (ج 6/ شرح ص 189).

ممَّا يكشف لك عن عدم معرفة صفة السفراء إلَّا ضمن نطاق دائرة ضيِّقة جدًّا.

ومع هذا لِمَ الاستبعاد أنْ لا تكون السلطات قد علمت بشأنهم؟

وكيف كان، ففي الروايات دلائل علي أنَّ السفراء لم يكونوا معروفين عند عامَّة الشيعة، بل عند الكثير من خواصِّهم، فكيف تعرفهم أعداؤهم بنحو سهل؟

ففي الإرشاد: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمّد، عن محمّد بن يعقوب، عن عليِّ بن محمّد، عن الحسن بن عيسي العريضي، قال: لمَّا مضي أبو محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) ورد رجل من مصر بمال إلي مكَّة لصاحب الأمر، فاختُلِفَ عليه، وقال بعض الناس: إنَّ أبا محمّد قد مضي عن غير خلف، وقال آخرون: الخلف من بعده جعفر، وقال آخرون: الخلف من بعده ولده، فبعث رجلاً يُكنّي أبا طالب إلي العسكر يبحث عن الأمر وصحَّته، ومعه كتاب، فصار الرجل إلي جعفر وسأله عن برهان، فقال له جعفر: لا يتهيَّأ لي في هذا الوقت، فصار الرجل إلي الباب، وأنفذ الكتاب إلي أصحابنا الموسومين بالسفارة، فخرج إليه: «آجرك الله في صاحبك فقد مات، وأوصي بالمال الذي كان معه إلي ثقة يعمل فيه بما يجب»، وأُجيب عن كتابه، وكان الأمر كما قيل له((1)).

وفي رواية أحمد الدينوري: قال: فقلت: يا قوم، هذه حيرة، ولانعرف الباب في هذا الوقت، قال: فقالوا: إنَّما اخترناك لحمل هذا المال لما نعرف من ثقتك وكرمك، فاحمله، علي ألَّا تُخرجه من يديك إلَّا بحجة... الخبر((2)).

وفي رواية أحمد بن أبي روح، قال: وجَّهت إليَّ امرأة من أهل دينور،

ص: 160


1- ()1() الإرشاد (ج 2/ ص 364 و365).
2- ()1() دلائل الإمامة (ص 519 - 524/ ح 493/97).

فأتيتها، فقالت: يا ابن أبي روح، أنت أوثق من في ناحيتنا ديناً وورعاً، وإنّي أُريد أنْ أُودعك أمانة أجعلها في رقبتك تُؤدّيها وتقوم بها، فقلت: أفعل إنْ شاء الله تعالي، فقالت: هذه دراهم في هذا الكيس المختوم، لا تحلُّه ولا تنظر فيه حتَّي تُؤدّيه إلي من يُخبرك بما فيه، وهذا قرطي يساوي عشرة دنانير، وفيه ثلاث حبّات لؤلؤ تساوي عشرة دنانير، ولي إلي صاحب الزمان حاجة أُريد أنْ يُخبرني بها قبل أنْ أسأله عنها، فقلت: وما الحاجة؟ قالت: عشرة دنانير استقرضتها أُمّي في عرسي لا أدري ممَّن استقرضتها، ولا أدري إلي من أدفعها، فإن أخبرك بها فادفعها إلي من يأمرك بها...، إلي أنْ وصل إلي سُرَّ من رأي وحصل علي ما يريد((1))، ولم ننقل الرواية كاملة لأنَّ محلَّ الشاهد فيها أنَّهم لا يقبلون من كلِّ أحد إلَّا ببيِّنة، وهذا يسري حتَّي علي العوامِّ من الشيعة.

وفي (كمال الدِّين): حدَّثنا أبي 2، عن سعد بن عبد الله، عن أبي حامد المراغي، عن محمّد بن شاذان بن نعيم، قال: بعث رجل من أهل بلخ بمال ورقعة ليس فيها كتابة قد خطَّ فيها بإصبعه كما تدور من غير كتابة، وقال للرسول: احمل هذا المال، فمن أخبرك بقصَّته وأجاب عن الرقعة فأوصل إليه المال، فصار الرجل إلي العسكر وقد قصد جعفراً وأخبرهالخبر، فقال له جعفر: تقرُّ بالبداء؟ قال الرجل: نعم، قال له: فإنَّ صاحبك قد بدا له وأمرك أنْ تُعطيني المال، فقال له الرسول: لا يُقنعني هذا الجواب، فخرج من عنده وجعل يدور علي أصحابنا، فخرجت إليه رقعة قال: «هذا مال قد كان غرَّر به، وكان فوق صندوق فدخل اللصوص البيت وأخذوا ما في الصندوق»، وسلَّم المال وردت عليه الرقعة وقد كُتِبَ فيها: «كما تدور، وسألت الدعاء فعل الله بك، وفعل»((2)).

ص: 161


1- ()2() الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 699 - 702/ ح 17).
2- ()1() كمال الدِّين (ص 488 و489/ باب 45/ ح 11).

والرواية تامَّة سنداً، فأبو حامد المراغي هو أحمد بن إبراهيم المراغي، قد روي الكشّي توقيعاً شريفاً يدلُّ علي مدحه، وقال ابن داود عنه: إنَّه ممدوح عظيم الشأن((1)).

ومحمّد بن شاذان بن نعيم ثقة، كان من وكلاء الناحية((2)).

وسعد هو ابن عبد الله الأشعري القمّي الجليل القدر((3)).

ووالد الصدوق عَلَم في الوثاقة((4)).

ولكن ليس من الواضح في الرواية أنَّ محمّد بن شاذان قد رأي الكتاب وعرف الخطَّ الذي فيه.

والأمر سهل؛ لأنَّ ذكر الرواية وما سبقها لمجرَّد الاستشهاد وليس للاستدلال، ومن الواضح فيها أنَّهم لم يكونوا يقبلون من أيِّ أحد أنْ يُخبرهم عن الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه أو يأخذ المال له.

هل تنافي وثاقة السفير احتمال الخطأ فيما أخبر به؟

ومن الأسئلة والشبهات فيما يرجع إلي السفراء أنَّ غاية ما يمكن أنْ يقال عنهم: إنَّهم علي أعلي درجات الوثاقة، والثقة نحتمل الخطأ منه، ونحتمل وقوعه في الكذب وإنْ نفينا عنه الإصرار علي الكذب، وهذا الاحتمال مانع من الجزم بما نقلوه لنا من التوقيعات.

وفي مقام الجواب عن هذه الشبهة نقول:

لقد بعث الله تعالي رُسُله للناس كي يأخذوا بأيديهم إلي ما فيه صلاح الدنيا ومنفعة العباد، يتَّكئ ذلك علي رؤية للكون ومآل الدنيا وأفراد البشر

ص: 162


1- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 2/ ص 16/ الرقم 383).
2- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 16/ ص 26 - 29/ الرقم 10177).
3- ()4() تقدَّم تخريجه في (ص 79)، فراجع.
4- ()5() تقدَّم تخريجه في (ص 80)، فراجع.

تقدَّمها الشرائع للناس، ويستقيم فوق ذلك منظومة أحكام تضبط إيقاع حركة الأفراد وفق ما في طبائع الأفعال من نفع وضرر، ويتوسَّط بين هذا وذاك منظومة أخلاقيَّة تضمن دوام الاستقامة لمن أراد أنْ (يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً 62) (الفرقان: 62)، وتجعل سلوكه الحسن نبتة نمت في بيئتها المناسبة ممَّا يضمن استمرار اخضرارها.

ولمَّا كثرت تفاصيل الشرائع بما في ذلك الشريعة الإسلاميَّة بنحو تسبَّب في انعدام فرصة العلم بكلِّ تفاصيلها لكثرة تشعُّبها، وللبعد الزماني عن حضور المشرِّع المحيط بالشريعة، ولظروف أُخري، قضت الضرورة أنْ يقبل الشارع بما دون العلم في إحراز أحكامه، فجعل الحجّيَّة لبعض الظنون الخاصَّة، كالظنِّ الناشئ من إخبار الثقة، والظنِّ الناشئ من الظهور، وأبقي بعض الظنون علي حالها، بل ردع عن العمل ببعضها، كما في القياس الذي منع الشارع من جعله مستنداً ولو أورث أعلي درجات الظنِّ، «إنَّ السُّنَّة إذا قيست مُحِقَ الدِّين»((1)).وقد اتَّفقت كلمات الفقهاء علي حجّيَّة الأخبار التي ينقلها الثقاة في الجملة، وشذَّ عن ذلك نفر يسير كالطبرسي وابن إدريس (أعلي الله مقامهما)، ومثل ذلك حجّيَّة الظهورات. نعم، وقع الخلاف في بعض التفصيلات في الحجّيَّتين.

وكانت النتيجة: أنَّ أغلب أحكامنا ثبتت بأدلَّة ظنّيَّة من جهة الصدور أو الدلالة أو كليهما، ولا مشكلة في ذلك، لأنَّ ثبوت الحجّيَّة الشرعيَّة يضمن المُؤَمِّن من تبعة مخالفة الواقع غير المعلوم، كما يضمن الثواب للمنقاد لو كان ما أتي به - اعتماداً علي الظنِّ الحجَّة - من إطاعة بنظرة مخالفاً للواقع.

فكان ذلك سبباً في نشوء علم الجرح والتعديل للتعامل مع الموروث

ص: 163


1- ()1() راجع: الكافي (ج 1/ ص 57/ باب البدع والرأي والمقائيس/ ح 15).

الروائي لتتجاوز مشكلة عدم حصول العلم بالصدور من الشارع المقدَّس، وتكفَّل هذا العلم ضبط أحوال الرجال ممَّن يقعون في أسانيد الروايات اعتماداً علي شهادات خاصَّة بالراوي أو اتِّكالاً علي قواعد عامَّة كمشايخ الثلاثة وأصحاب الإجماع.

فالفقيه والباحث إنْ لم يحصل علي علم بصدور الخبر لم يُعدَم الحجَّة التعبُّديَّة في عديد الموارد.

وقد أُلِّفت موسوعات رجاليَّة كثيرة لتكون معيناً للباحثين حوت كمًّا كبيراً من المعلومات التي تساعد في تكوين صورة عن رواة الأحاديث.

ومن ضمن من تعرَّض له أرباب هذا الفنِّ سفراء الإمام الثاني عشر ووكلاؤه في زمن الغيبة الصغري، والذين خرجت توقيعاته عجل الله تعالي فرجه والشريفه عن طريقهم، فلا يُعتَبر القطع بصدور تلك التوقيعات عنه عجل الله تعالي فرجه والشريفه، بل يكفي مجرَّد طريق معتبر وفق الضوابط العامَّة التي أُشير إليها آنفاً.

كما لا نحتاج إلي إثبات السفارة أو الوكالة عن الناحية المقدَّسة، فأيّفرق بين رواية نقلها زرارة أو محمّد بن مسلم أو أبو بصير أو غيرهم من أعلام الرواة، وبين رواية نقلها عثمان بن سعيد أو ولده محمّد أو الحسين بن روح أو عليُّ بن محمّد السمري، أو حتَّي الوكلاء غير السفراء، لنقبل رواية الأوائل دون السفراء أو الوكلاء؟

بل هنا ما يجعل رواية الوكلاء والسفراء أولي بالقبول، وهو:

1 - إنَّ من المضعِّفات الاحتماليَّة في الخبر نوعاً احتمال وقوع المخبر في الخطأ واحتمال نسيانه في القول لفقرة من الكلام الذي ينقله أو الحادثة التي يرويها، وهذا لا مجال له في التوقيع الذي يكون بخطِّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه، لأنَّ دور السفير ليس إلَّا تسليم تلك المكاتبة بخطِّه عجل الله تعالي فرجه والشريفه. والمفروض أنَّ كلامنا في التوقيعات التي صدرت من الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه ونُقِلَت إلينا عن طريق السفراء.

ص: 164

2 - أنَّ مستوي الوثاقة مختلف من فرد إلي آخر، فبعض الناس تجزم بعدم تعمُّده للكذب والافتراء، ومن يتَّهم مثل زرارة بالكذب أو يتعقَّل احتمال قصده الكذب؟

واحتمال نفي الكذب في مثل زرارة لا يستند إلي استحالته العقليَّة، بل يستند إلي واقع بنيته النفسيَّة ومستوي تديُّنه الذي علمناه عليه.

والأعلام الأربعة الذين هم سفراء الغيبة الصغري لا شكَّ أنَّهم كذلك من هذه الناحية، وأمَّا احتمال أنْ يأتي السفير بكتاب يقول عنه: إنَّه مكاتبة من الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه وليس هو في الواقع كذلك، فهذا غير متصوَّر فيه، فالناس تسأل ثمّ تنتظر مدَّة ليأتي التوقيع الشريف وفيه ما يخصُّهم.

وأمَّا نقل قول الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه فلا يدخل تحت عنوان المكاتبات أو التوقيعات الشريفة له، وإن كان متَّصفاً بنفس الوثاقة والاطمئنان بصدوره عنه عجل الله تعالي فرجه والشريفه.3 - انتفاء احتمال التقيَّة أو ضعفه إلي حدٍّ بعيد، لأنَّ الإمام غائب عن أعين الناس فلا يخاف علي نفسه من الظالمين من جهة رأيه ليضطرَّ إلي بيان حكم موافق للعامَّة دفعاً للشبهات. والروايات وإنْ ورد العديد منها في بيان علَّة الغيبة بالخوف علي نفسه، إلَّا أنَّ الخوف في غيبته ناشئ من احتمال معرفة الظالمين بأصل وجوده لا من رأيه المخالف للظالمين، وورود خبر عنه فيه رأي له لا يُفرِّق فيه بين أنْ يكون موافقاً لفقهاء العامَّة أو لا يكون؛ لأنَّ التقيَّة في زمن آبائه كثيراً ما كانت لدفع بعض ما يدفع الظالم نحو قرار تصفيته أو التضييق عليه، وفي زمن غيبته قد صدر قرار تصفيته، لكنَّهم لم يعثروا عليه، فظهور خبر عنه هو مطلوب حكومات الجور، وافق مضمون الخبر رأي علمائهم أم خالفها.

ولهذا لا تجد إماماً من الأئمَّة المتقدِّمين طلبته سلطة الجور في صغره، بل قبل تسنُّمه منصب الإمامة فضلاً عن فترة ما قبل ولادته، بل لم يطلب بحسب

ص: 165

العادة بمجرَّد تصدِّيه لمنصب الإمامة وإنَّما بعد مدَّة من إمامته لأسباب ليس هذا محلّ استقصائها.

وإنَّما قلنا بحسب العادة لأنَّ المنصور طلب من يتصدّي بعد الإمام الصادق (عليه السلام)، وطلب هارون خليفة الإمام الكاظم (عليه السلام)، ثمّ خفتتْ في الاثنين نار الحقد بعد إقدامهم علي قتل الإمامين (عليهما السلام).

وأمَّا الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه والشريفه فقد طلبه أعداؤه قبل ولادته بمدَّة من الزمان، لما انتهي إليهم من أنَّ الإمام الثاني عشر هو الذي يُسقِط عروش الظالمين ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً. وذلك هو سبب الإتيان بالإمام الهادي (عليه السلام) إلي سامراء عاصمة الخلافة آنذاك، وأُبقي الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) تحت نظرهم هناك أيضاً. وكانت جلاوزتهم تترقَّب الأخبارعن الولادة الميمونة، ونساؤهم تدخل إلي بيت الإمام العسكري (عليه السلام) لتُفتِّش بين نسائه وجواريه عن الحمل. ولم يأتِ المولود الميمون إلَّا من خلال طريق معجز لم يظهر له أيُّ أثر حتَّي ليلة ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه، بل حتَّي السيِّدة حكيمة حين أُخبرت بأنَّ في تلك الليلة ستشرق الأرض بولادته استغربت حين فحصت أُمَّه ولم ترَ أيَّ أثر للحمل.

وعلي أيِّ حالٍ، فوجود الإمام الثاني عشر كان مستهدفاً، ومن هنا لا يفرق كثيراً بين خبر صدر منه علي وجه التقيَّة أو علي نحو الإرادة الجدّيَّة.

والتقيَّة تقتضي عدم صدور التوقيع لو اقتضت ذلك، لا صدوره بمضمون يتناسب مع التقيَّة، بخلاف من تقدَّمه من آبائه (عليهما السلام).

وقد دلَّت جملة من الروايات علي تحريم ذكر اسمه عجل الله تعالي فرجه والشريفه، وكفاك بمثلها دليلاً علي أنَّ ذكر رواية عنه - ولو بمضمون موافق للتقيَّة لو كان - علي خلاف التقيَّة.

نعم، قد يُتعقَّل احتمال التقيَّة علي غير الإمام من الأتباع، لكن ذلك يجري

ص: 166

في غير الحجَّة عجل الله تعالي فرجه والشريفه، كما في ذمِّ الإمام الصادق (عليه السلام) لزرارة في بعض الروايات لأجل دفع الشبهة عنه، لكن ذلك لا مجال له فيما صدر من توقيع عن الحجَّة (أنار الله الأرض بظهوره)، لأنَّ دفع الشبهة عن تابع للإمام يزاحم عادةً دفع الخطر عن الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه، والثاني أرجح من الأوَّل.

وبهذا يضعف المضعف النوعي في مكاتبات باقي الأئمَّة (عليهما السلام) والمتمثِّل باحتمال صدورها تقيَّةً في توقيعات الإمام الحجَّة عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

وقد يقال: إنَّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه حريص علي سلامة أتباعه، ومن هنا كانت بعض الأوامر تخرج إليهم للعمل بما يُتَّقي معه شرَّ الظالمين، فالتقيَّة واردةفي توقيعاته عجل الله تعالي فرجه والشريفه دفعاً للضرر عن أتباعه.

فقد روي الكليني (رحمه الله) عن الحسين بن الحسن العلوي، قال: كان رجل من ندماء روزحسني وآخر معه، فقال له: هو ذا يجبي الأموال وله وكلاء وسمُّوا جميع الوكلاء في النواحي، وأُنهي ذلك إلي عبيد الله بن سليمان الوزير، فهمَّ الوزير بالقبض عليهم، فقال السلطان: اطلبوا أين هذا الرجل، فإنَّ هذا أمر غليظ، فقال عبيد الله بن سليمان: نقبض علي الوكلاء، فقال السلطان: لا، ولكن دسُّوا لهم قوماً لا يُعرَفون بالأموال، فمن قبض منهم شيئاً قُبِضَ عليه، قال: فخرج بأنْ يتقدَّم إلي جميع الوكلاء أنْ لا يأخذوا من أحد شيئاً، وأنْ يمتنعوا من ذلك، ويتجاهلوا الأمر، فاندسَّ لمحمّد بن أحمد رجل لا يعرفه وخلا به، فقال: معي مال أُريد أنْ أُوصله، فقال له محمّد: غلطت أنا لا أعرف من هذا شيئاً، فلم يزل يتلطَّفه ومحمّد يتجاهل عليه، وبثُّوا الجواسيس، وامتنع الوكلاء كلُّهم لما كان تقدَّم إليهم((1)).

وفي (الغيبة للطوسي) عن محمّد بن يعقوب، عن عليِّ بن محمّد، قال: خرج

ص: 167


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 525/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 30).

نهي عن زيارة مقابر قريش والحير، فلمَّا كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطاني فقال له: الق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لا تزوروا مقابر قريش ، فقد أمر الخليفة أنْ يُتفقَّد كلُّ من زار، فيقبض عليه((1)).

وعليُّ بن محمّد الذي يروي عنه محمّد بن يعقوب هو عليُّ بن محمّد بن بندار، وبندار هو أبو القاسم عبد الله بن عمران البرقي، وقد نصَّ علي توثيقه((2))، فالرواية صحيحة السند.بل ورد عن الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه الكثير من الإجابات عن موارد شخصيَّة، ففي الحسنة روي الصدوق (رحمه الله) في (كمال الدِّين) عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن محمّد بن الصالح، قال: كتبت أسأله الدعاء لباداشاله وقد حبسه ابن عبد العزيز، وأستأذن في جارية لي أستولدها، فخرج: «استولدها ويفعل الله ما يشاء، والمحبوس يُخلِّصه الله»، فاستولدت الجارية فولدت فماتت، وخُلّي عن المحبوس يوم خرج إليَّ التوقيع((3)).

وروي في الحسنة عن أبيه 2، عن سعد بن عبد الله، عن عليِّ بن محمّد الشمشاطي رسول جعفر بن إبراهيم اليماني، قال: كنت مقيماً ببغداد، وتهيَّأت قافلة اليمانيِّين للخروج، فكتبت أستأذن في الخروج معها، فخرج: «لا تخرج معها، فما لك في الخروج خيرة، وأقم بالكوفة»، فخرجت القافلة وخرجت عليها بنو حنظلة فاجتاحوها، قال: وكتبت أستأذن في ركوب الماء، فخرج: «لا تفعل»، فما خرجت سفينة في تلك السنة إلَّا خرجت عليها البوارج فقطعوا عليها... الخبر((4)).

ص: 168


1- ()2() الغيبة للطوسي (ص 284/ ح 244).
2- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 13/ ص 135 و136/ الرقم 8398).
3- ()1() كمال الدِّين (ص 489/ باب 45/ ح 12).
4- ()2() كمال الدِّين (ص 491/ باب 45/ ح 14).

لكن ذلك مردود من جهة أنَّ احتمال التقيَّة الذي ضعَّفناه هو إطلاق لفظ وإرادة معني غير ظاهر منه أو إرادة إيهام من يسمعه أنَّه يُراد ظاهره، ومثل ما تقدَّم من الروايات لم يتحقَّق فيها هذا الاحتمال، فلا مشكلة فيها من جهة التقيَّة توجب احتمال إرادة غير ظاهرها، ففي عين الوقت الذي يكون الداعي لبيان تلك الموارد الحرص علي الأتباع، لا نحتمل في هذه التوقيعات صدورها علي نحو التقيَّة، بل في بعضها أمر للوكلاء ولعامَّة الشيعة بالتقيَّة، وهذا غير صدور التوقيع علي وجه التقيَّة.بل قد ورد في بعض الروايات الأمر بتمزيق الكتاب الذي فيه التوقيع، ففي (كمال الدِّين): حدَّثنا أبي 2، عن سعد بن عبد الله، قال: حدَّثني أبو عليٍّ المتيلي، قال: جاءني أبو جعفر، فمضي بي إلي العبّاسيَّة وأدخلني خربة وأخرج كتاباً فقرأه عليَّ، فإذا فيه شرح جميع ما حدث علي الدار، وفيه: أنَّ فلانة - يعني أُمّ عبد الله - تُؤخَذ بشعرها وتُخرَج من الدار ويحدر بها إلي بغداد، فتقعد بين يدي السلطان - وأشياء مما يحدث -، ثمّ قال لي: احفظ، ثمّ مزَّق الكتاب، وذلك من قبل أنْ يحدث ما حدث بمدَّة((1)).

4 - قرب إسناد التواقيع، حيث لا يفصل زمان كبير بين صدور هذه التوقيعات وكتابة مجامع الحديث، إذ كُتِبَ الكافي في زمان الغيبة الصغري التي دامت (69) عاماً، بينما غالبيَّة رواياتنا كانت قد نُقِلَت عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، وقد استشهد الإمام الباقر (عليه السلام) في زمن الدولة الأُمويَّة التي انتهت عام (132ه-)، بل استشهد عام (114ه-) علي وجه التحديد، والإمام الصادق (عليه السلام) قد استشهد عام (148ه-)، فالمدَّة بين وفاة الإمام الباقر (عليه السلام). وبداية الغيبة الصغري (142) عاماً، ولم تُنقَل كلُّ الروايات عنه في آخر سنة من

ص: 169


1- ()1() كمال الدِّين (ص 498/ باب 45/ ح 20).

عمره، ولا توقيعات الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه قد خرجت في أوَّل سنة من غيبته. والمدَّة بين استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) وبداية الغيبة الصغري (112) سنة، وليست الروايات المنقولة عنه نُقِلَت في آخر سنة من حياته، بل يمكن أنْ تكون في بداية إمامته التي دامت أربعة وثلاثين عاماً، ليكون الفاصل بين صدور مثلها وبداية الغيبة (146) عاماً.

نعم، لا يخلُّ ذلك بالحجّيَّة، لكنَّه يترك أثره من الناحية الاحتماليَّة.

5 - إنَّ التوقيعات الصادرة عن الإمام الحجَّة عجل الله تعالي فرجه والشريفه تكون بداية سندها ثقةفي العادة، لأنَّ من نقلوها سفراء الغيبة ووكلاء الناحية المقدَّسة، بخلاف الروايات التي صدرت عن باقي الأئمَّة (عليهما السلام)، فإنَّ من نقل عنهم قد كان فيهم الغثُّ والسمين، وما أكثر الرواة المباشرين ممَّن لم تثبت وثاقتهم.

بل الراوي المباشر للتوقيع علي أعلي درجات الوثاقة، بل فيهم من نصَّ المعصوم (عليه السلام) علي أنَّه الثقة الذي لا يُخطئ في نقله عنه «ما أدَّي فعنّي يُؤدّي»((1))، وسيأتيك مزيد من التوضيح والتفصيل.

6 - لمَّا كان من استتار الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه ما كان عرف الشيعة أنَّ الخبر عنه لا يأتي من كلِّ أحد، فمن أخبر عن الوكلاء بخبر عنه عجل الله تعالي فرجه والشريفه يعرف أنَّ الشيعة لا تُصدِّق ذلك عن كلِّ أحد، وقد يكون ذلك أدعي للارتداع عن الكذب في البعض، وهذا يُشكِّل مضعِّفاً نوعيًّا لاحتمال الكذب وإنْ لم يكن مانعاً قطعيًّا عنه.

نعم، قد يكون هناك احتمال مقابل؛ لأنَّ اهتمام الناس بالإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه يجعلهم يولُّون الاهتمام ويُظهرون الاحترام لمن ينقل الأخبار عنه عجل الله تعالي فرجه والشريفه، لكن الذي جمع الأخبار هم ممَّن لم يُعدَموا نوع المعرفة بذلك، وما وصلنا ليس من عامَّة الناس، بل من خواصِّهم وعلمائهم الذين تحمَّلوا مسؤوليَّة جمع الأخبار وتدوينها.

ص: 170


1- ()1() راجع: الكافي (ج 1/ ص 329 و330/ باب في تسمية من رآة (عليه السلام)/ ح 1).

7 - إنَّ أمارات التوثيق وشواهده كانت أقرب للرجاليِّين الأوائل من مثيلاتها في رواة الأخبار من الأئمَّة المتقدِّمين، فمعدَّل (150) سنة علي الأقلّ ليست بالمدَّة اليسيرة ليُحفَظ فيها خصوصيّات الأفراد ممَّا له دخل في قبول الرواية وعدمها، وقد تجاوز مشكلتها علماء الرجال، ولكنَّها ليست كمشكلة من كان أقرب إليهم بمدَّة قرن ونصف من الزمان. فاحتمال صدقالتوثيق في رواة التوقيعات أعلي من مثيله في الرواة الذين كانوا علي عهد الإمامين الباقرين (عليهما السلام).

8 - في الوقت الذي لم يُشكِّل تكذيب واضعي الحديث علي الأئمَّة المتقدِّمين من قِبَلهم (عليهما السلام) ظاهرة، كان ذلك ظاهرة في من كذب علي الإمام الثاني عشر عجل الله تعالي فرجه والشريفه؛ لأنَّ الأمر لم يقتصر علي نقل رواية فحسب، بل كان يتعدّاه إلي ادِّعاء السفارة، ومن هنا قضت الضرورة بالتصدّي لهم. وحين تجاسرت أنفسهم علي ادِّعاء السفارة كان ذلك إيذاناً بدعاوي أكبر من بعضهم، وقد نقل الشيخ الطوسي عن هارون بن موسي قوله: وكلُّ هؤلاء المدَّعين إنَّما يكون كذبهم أوَّلاً علي الإمام وأنَّهم وكلاؤه، فيدعون الضعفة بهذا القول إلي موالاتهم، ثمّ يترقّي (الأمر) بهم إلي قول الحلّاجيَّة، كما اشتهر من أبي جعفر الشلمغاني ونظرائه (عليهم جميعاً لعائن الله تتري)((1)).

ومثل الشلمغاني: الشريعي والنصيري.

وقد نقل توقيع الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في لعن الشريعي والتبرّي منه، (وهو أوَّل من ادَّعي مقاماً لم يجعله الله فيه)((2)).

وجاء بعده محمّد بن نصير النميري، لكن لعنه والتبرّي منه والاحتجاب عنه كان من محمّد بن عثمان((3)).

ص: 171


1- ()1() الغيبة للطوسي (ص 397 و398/ ح 368).
2- ()2() راجع: المصدر السابق.
3- ()3() راجع: الغيبة للطوسي (ص 398/ ح 369).

وممَّن ظهر التوقيع بلعنه والبراءة منه أحمد بن هلال الكرخي، حيث خرج التوقيع علي يد أبي القاسم بن روح بلعنه والبراءة منه((1)).

ص: 172


1- ()4() عليُّ بن محمّد بن قتيبة، قال: حدَّثني أبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، قال: ورد علي القاسم بن العلاء نسخة ما خرج من لعن ابن هلال، وكان ابتداء ذلك أنْ كتب (عليه السلام) إلي قوّامه بالعراق: «احذروا الصوفي المتصنِّع». قال: وكان من شأن أحمد بن هلال أنَّه قد كان حجَّ أربعاً وخمسين حجَّة، عشرون منها علي قدميه. قال: وكان رواة أصحابنا بالعراق لقوه وكتبوا منه، وأنكروا ما ورد في مذمَّته، فحملوا القاسم ابن العلاء علي أنْ يراجع في أمره، فخرج إليه: «قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنِّع ابن هلال (لا رحمه الله) بما قد علمت، لم يزل (لا غفر الله له ذنبه ولا أقاله عثرته) يداخل في أمرنا بلا إذن منّا ولا رضي، يستبدُّ برأيه، فيتحاميٰ من ديوننا، لا يمضي من أمرنا إلَّا بما يهواه ويريد، أرداه الله بذلك في نار جهنَّم، فصبرنا عليه حتَّي بتر الله بدعوتنا عمره. وكنّا قد عرَّفنا خبره قوماً من موالينا في أيّامه (لا رحمه الله)، وأمرناهم بإلقاء ذلك إلي الخاصِّ من موالينا، ونحن نبرأ إلي الله من ابن هلال (لا رحمه الله)، وممَّن لا يبرأ منه. وأعلم الإسحاقي (سلَّمه الله) وأهل بيته ممَّا أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه من أهل بلده والخارجين ومن كان يستحقُّ أنْ يطَّلع علي ذلك، فإنَّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يُؤدّيه عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنَّنا نفاوضهم سرَّنا، ونحمله إيّاه إليهم، وعرفنا ما يكون من ذلك إنْ شاء الله تعالي». وقال أبو حامد: فثبت قوم علي إنكار ما خرج فيه، فعاودوه فيه، فخرج: «لا شكر الله قدره لم يدعُ المرء ربَّه بأنْ لا يزيغ قلبه بعد أنْ هداه وأنْ يجعل ما منَّ به عليه مستقرًّا ولا يجعله مستودعاً. وقد علمتم ما كان من أمر الدهقان (عليه لعنة الله) وخدمته وطول صحبته، فأبدله الله بالإيمان كفراً حين فعل ما فعل، فعاجله الله بالنقمة ولم يمهله، والحمد الله لا شريك له، وصلّي الله علي محمّد وآله وسلَّم». (اختيار معرفة الرجال: ج 2/ ص 816 و817/ ح 1020).

وممَّن خرج التوقيع بلعنه والبراءة منه: محمّد بن عليٍّ المعروف بالشلمغاني المعروف باسم العزاقري((1)).9 - إنَّ بعض الروايات التي نُقِلَت عن الأئمَّة (عليهما السلام) في زمن الحضور قد نُقِلَت بالمعني ولم يُنقَل لفظها بالنصِّ، ويحتمل ولو ضعيفاً أنْ يشتبه الراوي في فهم مراد الإمام (عليه السلام)، وهذا الاحتمال لا يأتي في نقل مكاتبة بخطِّه عجل الله تعالي فرجه والشريفه، والنقل بالمعني وإنْ لم يمنع من الحجّيَّة إلَّا أنَّه يبقي مضعِّفاً احتماليًّا، خصوصاً إذا لم يكن الراوي ضليعاً بالفهم، بل كان مجرَّد راوٍ ثبتت وثاقته.

ولست باستعراضي لهذه القرائن بصدد إثبات حجّيَّة التوقيعات الصادرة عنه عجل الله تعالي فرجه والشريفه أو المنسوبة إليه دون إعمال الضوابط في القبول وعدمه، بل إنَّ ما ذُكِرَ يُشكِّل قرائن احتماليَّة لا توصل إلي الجزم، ولكنَّها في الحدِّ الأدني تمنع من النظر إلي التوقيعات علي أنَّها في القبول دون الروايات التي نُقِلَت في زمان الحضور عن باقي الأئمَّة (عليهما السلام). فلِمَ نقبل بقيَّة الروايات في صورة توفُّرها علي شرائط الحجّيَّة ولا نقبل التوقيعات أو نُشكِّك فيهاإنْ كانت كذلك؟!

ص: 173


1- ()1() والتوقيع الذي خرج بلعنه مع آخرين كان علي يد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح 2، ونسخته: «عرِّف (أطال الله بقاك وعرَّفك الله الخير كلَّه وختم به عملك) من تثق بدينه وتسكن إلي نيَّته من إخواننا أدام الله سعادتهم بأنَّ محمّد بن عليٍّ المعروف بالشلمغاني (عجَّل الله له النقمة ولا أمهله) قد ارتدَّ عن الإسلام وفارقه، وألحد في دين الله، وادَّعي ما كفر معه بالخالق (جلَّ وتعالي)، وافتري كذباً وزوراً، وقال بهتاناً وإثماً عظيماً، كذب العادلون بالله وضلُّوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراناً مبيناً. وإنّا برئنا إلي الله تعالي وإلي رسوله (صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته) منه، ولعنّاه (عليه لعاين الله تتري) في الظاهر منّا والباطن، في السرِّ والجهر، وفي كلِّ وقتٍ وعلي كلِّ حالٍ، وعلي كلِّ من شايعه وبلغه هذا القول منّا فأقام علي توليه بعده. أعلمهم (تولّاك الله) أنَّنا في التوقّي والمحاذرة منه علي مثل ما كنّا عليه ممَّن تقدَّمه من نظرائه من السريعي )الشريعي( والنميري والهلالي والبلالي وغيرهم. وعادة الله (جلَّ ثناؤه) مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة، وبه نثق، وإيّاه نستعين، وهو حسبنا في كلِّ أُمورنا ونعم الوكيل» (الاحتجاج: ج 2/ ص 290).

فإذا تمَّت أسانيد التوقيعات لا بدَّ من الأخذ بها عندما تنتفي وجداناً أو تعبُّداً احتمالات التقيَّة. وعندما ينتفي أيضاً وجود القرينة المانعة من العمل بها من وجود رواية أُخري معارضة مكافئة لهذه المكاتبة أو أقوي بنحو تُقَدَّم عليها وفق قواعد صنعة الاستنباط، أو مخالفة لدليل قرآني أو قرينة عقليَّة، أو إعراض للمشهور عنها مع كونها بين أيديهم.

وبهذا لا يكون من الضروري معرفة خطِّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه وكون التوقيع بذلك الخطِّ حتَّي يتساءل المتسائل: ومن قال: إنَّ هذا الخطَّ هو خطُّ الإمام المعصوم (عليه السلام)؟ كما قيل.

وهل سجَّل الرواة عن الأئمَّة المتقدِّمين (عليهما السلام) أمثال زرارة ومحمّد بن مسلم ويونس بن عبد الرحمن وأضرابهم صوت الإمام الباقر والإمام الصادق أو غيرهما من الأئمَّة (عليهما السلام)، وعرفنا هذا الصوت لنقبل منهم خبرهم بعد مطابقة الصوت أم أنَّ مجرَّد وثاقتهم كان كافياً في الاعتماد علي ما نقلوه لنا؟ فلماذا نعتبر في التوقيعات هذا الشرط الإضافي دون بقيَّة الروايات؟!

ومع كلِّ ذلك سيأتي أنَّ الخطَّ كان معروفاً للخواصِّ، وأنَّ المكاتبات كانت تخرج بنفس الخطِّ المعروف.

طلب البيِّنة من السفراء أمر مألوف:

إنَّ من الطبيعي أنْ يتردَّد الإنسان في قبول الدعاوي الغريبة، بل من المألوف ردُّها لمجرَّد غرابتها، والناس لا تضع مثل هذه الأُمور تحت مجهر الدقَّة العقليَّة، هذا إنْ كان لهم قلوب يعقلون بها أو أعين يُبصِرون بها أوآذان يسمعون بها.

ومن هنا احتاج الأنبياء (عليهما السلام) إلي المعجزات، فإنَّ السفارة في الخلق عن الله تعالي أمر غاية في الغرابة.

ص: 174

وكلَّما ازدادت غرابة الأمر كانت المعجزة أكثر لزوماً ومن سنخ مختلف، فحين يأتي بخلق النبيِّ عيسي (عليه السلام) من غير أب وهو أمر لم يتكرَّر بعد خلق آدم وحوّاء، كانت طريقة إثبات ذلك بشيء لا لبس فيها يُشخِّصه الجاهل والعالم علي حدٍّ سواء، فأنطقه الله تعالي في المهد صبيًّا، ومع معرفتهم السابقة بطهارة مريم (عليها السلام) والذي دعاهم إلي الاستغراب من مجيئها بمولودها إلَّا أنَّ البرهان القاطع كان من خلال إنطاق وليدها حديث الولادة، فألقم الناس حجراً.

وحين تضيق الآفاق علي النبيِّ موسي (عليه السلام) ومن معه عندما سعي فرعون لإدراكهم، ينشقُّ لهم البحر ليمضي بقومه بين طودين عظيمين من الماء، ثمّ يكون نفس طريق الإعجاز الذي أنقذ قوم موسي (عليه السلام) طريق بوار وهلاك لفرعون وجيشه. وتلك المعجزة لم تكن لإتمام الحجَّة علي قوم فرعون بلا شكٍّ، إذ لم يمهلهم الأجل لما بعدها كي يعتبروا، بل لتكميل إيمان قوم موسي (عليه السلام) وإتمام الحجَّة عليهم، ومع ذلك لم يكتمل إيمانهم!

وهكذا حتَّي يصل الأمر إلي النبوَّة الخاتمة، فاحتاجت أنْ يأتي النبيُّ (صلي الله عليه وآله) بالمعجزات، ولكن لأنَّه كان رسولاً (كَافَّةً لِلنَّاسِ) (سبأ: 28)، ولكونه (لِلْعالَمِينَ نَذِيراً 1) (الفرقان: 1)، و (نَذِيراً لِلْبَشَرِ 36 لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ 37) (المدَّثِّر: 36 و37)؛ ولأنَّ النبوَّة قد أُوصِد بابها به (صلي الله عليه وآله)، اقتضي ذلك أنْ تكون له معجزة تكسر حدود الزمان والمكان، فأنزل الله تعالي عليه القرآن مع التحدّي الصارخ لكلِّ المشكِّكين، بل التحدّي الذي يسم جباههم بوسم الذلِّ والصغار حين جعل ساحة النزال أنْ يأتوا بسورةواحدة مثله.

وقد جري الأمر في الأئمَّة (عليهما السلام) ولكن بمستوي أدني، فبعد قبول نبوَّة النبيِّ (صلي الله عليه وآله) كانت الإمامة أقلُّ غرابةً من نزول وحي واتِّصال بالسماء واطِّلاع علي الغيب، هذا مع إشارة النبيِّ (صلي الله عليه وآله) إلي أهل بيته (عليهما السلام) بالحثِّ علي محبَّتهم، وببيان أنَّهم عِدل القرآن، وأنَّهم لن يفترقوا عنه، وما إلي ذلك.

ص: 175

لكن لكون الإمامة تسلب شرعيَّة أنظمة حاكمة وقوي ظالمة، فإنَّ تلك الطغم لم تألُ جهداً في الوقوف بوجهها بتهديد ووعيد وخلق أجواء تشكيك، ووُظِّف لذلك علماء وفقهاء باعوا دينهم بالدنيا ورضوا بدل الآخرة بالأُولي، وتمكَّنوا بذلك من صرف عامَّة الناس عن إمامة أئمَّة الهدي، فكانت الحاجة إلي ما يقطع الشكَّ باليقين ويرد حبائل الشياطين بين الفينة والأُخري. وكان حقًّا طبيعيًّا أنْ يُطلَب من الإمام (عليه السلام) شاهد الحقِّ علي إمامته.

حين يأتي الشامي إلي أبي عبد الله (عليه السلام) في الرواية المعروفة وقد تقدَّمت ويقول: إنّي رجل صاحب كلام وفقه وفرائض، وقد جئت لمناظرة أصحابك. ويطول الكلام بينه وبين أصحاب الإمام (عليه السلام) إلي أنْ قال الشامي: فهل أقام من يجمع لهم كلمتهم ويُقيم أودهم ويُخبرهم بحقِّهم من باطلهم؟

قال هشام: في وقت رسول الله (صلي الله عليه وآله) أو الساعة؟

قال الشامي: في وقت رسول الله، رسول الله (صلي الله عليه وآله) والساعة من؟

فقال هشام: هذا القاعد الذي تُشَدُّ إليه الرحال، ويُخبرنا بأخبار السماء )والأرض( وراثةً عن أبٍ عن جدٍّ.

قال الشامي: فكيف لي أنْ أعلم ذلك؟

قال هشام: سَلْه عمَّا بدا لك.قال الشامي: قطعت عذري، فعليَّ السؤال.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا شامي، أُخبرك كيف كان سفرك؟ وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا»، فأقبل الشامي يقول: صدقت، أسلمت لله الساعة.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «بل آمنت بالله الساعة، إنَّ الإسلام قبل الإيمان...» الخبر((1)).

ص: 176


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 171 - 173/ باب الاضطرار إلي الحجَّة/ ح 4).

ولمَّا وقعت الغيبة وظهر من يقول أو يقال له: إنَّه سفير الإمام الغائب عن أعين الناس، كان الأمر بحاجة إلي إثبات ودعم مع خصوصيَّة أنَّ الأئمَّة (عليهما السلام) في زمن الحضور والنبيَّ (صلي الله عليه وآله) كانوا حين يأتون بما يقطع الشكَّ باليقين يكتفون بمفردة في جمع من الناس، ولمَّا كانت غيبة الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه زمن أشدّ حالات التقيَّة للخوف علي الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه كانت الدلائل علي صدق قول السفير إنَّه سفير تظهر لآحاد الأفراد مع السعي إلي التكتُّم عليها، ولذلك كان طبيعيًّا أنْ يكون كلُّ من أراد الاتِّصال بالسفير بعنوان أنَّه سفير يطلب البيِّنة والبرهان أنَّه كذلك.

وكيف كان، فلنقف للنظر هل جاء في التراث الشيعي ما يُثبِت وثاقة السفراء والوكلاء ليكون ذلك موجباً للركون إلي نقلهم أو لا؟

ما ورد في توثيق العمريين (رضي الله عنه):

لقد وردت جملة من الروايات الناصَّة علي وثاقة عثمان بن سعيد العمري وولده محمّد، وهما السفير الأوَّل والثاني، ومنها:

1 - جماعة، عن أبي محمّد هارون بن موسي، عن أبي عليٍّ محمّد بن همّام الإسكافي، قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدَّثناأحمد بن إسحاق بن سعد القمّي، قال: دخلت علي أبي الحسن عليِّ بن محمّد (صلوات الله عليه) في يوم من الأيّام، فقلت: يا سيِّدي، أنا أغيب وأشهد ولا يتهيَّأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كلِّ وقتٍ، فقول من نقبل، وأمر من نمتثل؟

فقال لي (صلوات الله عليه): «هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاه إليكم فعنّي يُؤدّيه».

فلمَّا مضي أبو الحسن (عليه السلام) وصلت إلي أبي محمّد ابنه الحسن العسكري (عليه السلام) ذات يوم، فقلت له (عليه السلام) مثل قولي لأبيه، فقال لي: «هذا أبو عمرو الثقة الأمين،

ص: 177

ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّي إليكم فعنّي يُؤدّيه».

قال أبو محمّد هارون: قال أبو عليٍّ: قال أبو العبّاس الحميري: فكنّا كثيراً ما نتذاكر هذا القول ونتواصف جلالة محلِّ أبي عمرو((1)).

وهارون بن موسي هو ابن أحمد بن سعيد التلعكبري من بني شيبان، قال النجاشي: (كان وجهاً في أصحابنا، ثقةً، معتمداً، لا يُطعَن عليه)((2)).

ومحمّد بن همّام هو محمّد بن أبي بكر همّام بن سهيل، وقد قال الشيخ عنه: (جليل القدر، ثقة)((3)).

وعبد الله بن جعفر عَلَم في الوثاقة((4)).

وتبقي المشكلة في الجماعة الذين يروي عنهم الشيخ، ويقوي احتمالالصحَّة نظراً لكونهم جماعة.

2 - وفي الرواية التي بعدها حين يلتقي عبد الله بن جعفر بأبي عمرو عند أحمد بن إسحاق قال له:

إنَّ هذا الشيخ - أحمد بن إسحاق - وهو عندنا الثقة المرضي حدَّثنا فيك بكيت وكيت - واقتصَّ عليه ما تقدَّم - وأنت الآن ممَّن لا يُشَكُّ في قوله وصدقه، فأسألك بحقِّ الإمامين اللذين وثَّقاك هل رأيت ابن أبي محمّد الذي هو صاحب الزمان (عليه السلام)؟ فبكي ثمّ قال: علي أنْ لا تُخبِر بذلك أحداً وأنا حيٌّ، قلت: نعم، قال: قد رأيته (عليه السلام) وعنقه هكذا... الخبر((5)).

ص: 178


1- ()1() الغيبة للطوسي (ص 354 و355/ ح 315).
2- ()2() رجال النجاشي (ص 439/ الرقم 1184).
3- ()3() الفهرست (ص 217/ الرقم 612/27).
4- ()4() تقدَّم تخريجه في (ص 80)، فراجع.
5- ()1() الغيبة الطوسي (ص 355/ ح 316).

فها هو عبد الله بن جعفر علي جلالته يقول اعتماداً علي خبر أحمد بن إسحاق: أنت الآن ممَّن لا يُشَكُّ في قوله وصدقه.

3 - روي الكليني (رحمه الله) بسند صحيح عن أحمد بن إسحاق أنَّه سأل أبا محمّد الحسن بن عليٍّ، فقال: من أُعامل وعمَّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال (عليه السلام) له: «العمري )عثمان بن سعيد( وابنه ثقتان، فما أدَّيا إليك فعنّي يُؤدِّيان..» الحديث((1)).

4 - محمّد بن عبد الله ومحمّد بن يحيي جميعاً، عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله) عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أنْ أسأله عن الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو، إنّي أُريد أنْ أسألك عن شيء وما أنا بشاكٍّ فيما أُريد أنْ أسألك عنه، فإنَّ اعتقادي وديني أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة إلَّا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك رُفِعَت الحجَّة وأُغلق باب التوبة فلم يكُ (يَنْفَعُنَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) )الأنعام: 158(، فأُولئك أشرار من خلق الله عزوجل، وهم الذين تقوم عليهم القيامة، ولكنّي أحببت أنْ أزداد يقيناً، وإنَّ إبراهيم (عليه السلام) سأل ربَّه عزوجل أنْ يريه كيف يُحيي الموتي، قال: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلي وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) )البقرة: 260(، وقد أخبرني أبو عليٍّ أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سألته وقلت: من أُعامل أو عمَّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له: «العمري ثقتي، فما أدّي إليك عنّي فعنّي يُؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنَّه الثقة المأمون»، وأخبرني أبو عليٍّ أنَّه سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يُؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعمها فإنَّهما الثقتان المأمونان»، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك.

ص: 179


1- ()2() الكافي (ج 1/ ص 329 و330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1).

قال: فخرَّ أبو عمرو ساجداً وبكي... الخبر((1)).

والرواية صحيحة السند.

5 - الشيخ الطوسي (رحمه الله) في (الغيبة)، قال: وقال جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري البزّاز، عن جماعة من الشيعة منهم عليُّ بن بلال وأحمد بن هلال ومحمّد ابن معاوية بن حكيم والحسن بن أيّوب بن نوح في خبر طويل مشهور، قالوا جميعاً: اجتمعنا إلي أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) نسأله عن الحجَّة من بعده، وفي مجلسه (عليه السلام) أربعون رجلاً، فقام إليه عثمان بن سعيد بن عمرو العمري، فقال له: يا بن رسول الله، أُريد أنْ أسألك عن أمر أنت أعلم به منّي.

فقال له: «اجلس يا عثمان»، فقام مغضباً ليخرج، فقال: «لا يخرجنَّأحد»، فلم يخرج منّا أحد إلي (أنْ) كان بعد ساعة، فصاح (عليه السلام) بعثمان، فقام علي قدميه، فقال: «أخبركم بما جئتم؟».

قالوا: نعم، يا بن رسول الله.

قال: «جئتم تسألوني عن الحجَّة من بعدي».

قالوا: نعم، فإذا غلام كأنَّه قطع قمر أشبه الناس بأبي محمّد (عليه السلام)، فقال: «هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرَّقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، ألَا وإنَّكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتَّي يتمَّ له عمر، فاقبلوا من عثمان ما يقوله، وانتهوا إلي أمره، واقبلوا قوله، فهو خليفة إمامكم، والأمر إليه...» في حديث طويل((2)).

وجعفر بن محمّد بن مالك قد وثَّقه الطوسي (رحمه الله)((3)).

ص: 180


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 329 و330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1).
2- ()1() الغيبة للطوسي (ص 357/ ح 319).
3- ()2() رجال الطوسي (ص 418/ الرقم 6037/2).

وأحد من يروي عنهم وهو أحمد بن هلال ثقة أيضاً((1))، ومجهوليَّة عليِّ بن بلال((2)) ومحمّد بن معاوية((3)) والحسن بن أيّوب((4)) لا تضرُّ؛ لأنَّ أحمد بن هلال في عرضهم.

6 - روي الشيخ بإسناده عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: خرج التوقيع إلي الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمري (قدَّس الله روحه) في التعزية بأبيه 2، وفيه: «أجزل الله لك الثواب وأحسن لكالعزاء، رُزئت ورُزئنا وأوحشك فراقه وأوحشنا، فسرَّه الله في منقلبه، )و(كان من كمال سعادته أنْ رزقه الله تعالي ولداً مثلك يخلفه من بعده، ويقوم مقامه بأمره، ويترحَّم عليه، وأقول: الحمد لله، فإنَّ الأنفس طيِّبة بمكانك، وما جعله الله عزوجل فيك وعندك، أعانك الله وقوّاك وعضدك ووفَّقك، وكان لك وليًّا وحافظاً وراعياً وكافياً»((5)).

ودلالتها واضحة علي وثاقته ووثاقة أبيه.

وطريق الشيخ إليه تامٌّ، فقد قال الشيخ: أخبر بجميع كُتُبه )أي عبد الله بن جعفر( ورواياته: (الشيخ المفيد (رحمه الله)، عن أبي جعفر بن بابويه، عن أبيه ومحمّد بن الحسن، عنه)، وهذا الطريق تامٌّ.

قال: (وأخبرنا بها ابن أبي جيد، عن ابن الوليد، عنه)((6))، وهو تامٌّ أيضاً، إلَّا أنَّ ابن أبي جيد يعدُّون حديثه صحيحاً أو حسناً.

ص: 181


1- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 3/ ص 149 - 156/ الرقم 1008).
2- ()4() بل هو ثقة، راجع: معجم رجال الحديث (ج 12/ ص 306 - 308/ الرقم 7966).
3- ()5() راجع: معجم رجال الحديث (ج 18/ ص 279/ الرقم 11833).
4- ()6() راجع: مستدركات علم رجال الحديث (ج 2/ ص 355/ الرقم 3393).
5- ()1() الغيبة للطوسي (ص 361/ ح 323).
6- ()2() الفهرست (ص 167 و168/ الرقم 439/7).

ما ورد في الحسين بن روح (رضي الله عنه):

هنا جملة من الشواهد ممَّا ورد في السفير الثالث ممَّا يدعم ما هو متسالم من وثاقته وسفارته للإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

ولكن لم يرد نصٌّ مباشر من المعصومين (عليهما السلام) بتوثيقه بالخصوص، لا هو ولا السمري (رضوان الله عليهما)((1))؛ لأنَّهما لم يكونا في زمن الحضور بخلاف العمريين فقد عاصرا الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)،وعاصر الأب الإمام الهادي (عليه السلام) أيضاً. نعم، أدلَّة اختيارهما للسفارة وأنَّ ذلك كان بأمر الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه يدلُّ بالالتزام علي الوثاقة.

ومن الشواهد ما ورد في الغيبة للطوسي: أخبرني الحسين بن عبيد الله، عن أبي الحسن محمّد بن أحمد بن داود القمّي (رحمه الله)، عن أبي عليٍّ )محمّد( بن همّام، قال: أنفذ محمّد بن عليٍّ الشلمغاني العزاقري إلي الشيخ الحسين بن روح يسأله أنْ يباهله وقال: أنا صاحب الرجل، وقد أُمرت بإظهار العلم، وقد أظهرته باطناً وظاهراً، فباهلني، فأنفذ إليه الشيخ 2 في جواب ذلك: أيُّنا تقدَّم صاحبه فهو المخصوم، فتقدَّم العزاقري فقُتِلَ وصُلِبَ وأُخِذَ معه ابن أبي عون، وذلك في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة((2)).

والرواية صحيحة سنداً، فالحسين بن عبيد الله هو ابن الغضائري((3)).

ومحمّد بن أحمد جليل القدر، شيخ القمّيين في وقته((4)).

ص: 182


1- ()3() نعم ورد نصٌّ من المعصوم في حقِّ السمري، لكن زمان خروجه في عام (305ه-) في شهر متأخِّر عن رحيل السفير الثاني، ممَّا يعني أنَّ التوقيع قد خرج علي يد السفير الثالث نفسه، ولا يمكن الاستناد إليه لإثبات الوثاقة؛ لاستلزام ذلك الدور.
2- ()1() الغيبة للطوسي (ص 307/ ح 258).
3- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 7/ ص 22 - 24/ الرقم 3490).
4- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 15/ ص 345 - 349/ الرقم 10121).

وأبو عليٍّ بن همّام هو محمّد بن همّام البغدادي جليل القدر أيضاً، عظيم المنزلة((1)).

وقد كان الحسين بن روح بمنزلة حتَّي أنَّ الصدوق الأب كان يكتب له أنْ يسأل الناحية المقدَّسة، فقد روي الشيخ الطوسي (رحمه الله) عن ابن نوح قوله: وحدَّثني أبو عبد الله الحسين محمّد بن سورة القمّي (رحمه الله) حين قَدِمَ علينا حاجًّا، قال: حدَّثني عليُّ بن الحسن بن يوسفالصائغ القمّي ومحمّد بن أحمد بن محمّد الصيرفي المعروف بابن الدلّال وغيرهما من مشايخ أهل قم أنَّ عليَّ بن الحسين بن موسي بن بابويه كانت تحته بنت عمِّه محمّد بن موسي بن بابويه، فلم يُرزَق منها ولداً. فكتب إلي الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح 2 أنْ يسأل الحضرة أنْ يدعو الله أنْ يرزقه أولاداً فقهاء، فجاء الجواب: «إنَّك لا تُرزَق من هذه، وستملك جارية ديلميَّة وتُرزَق منها ولدين فقيهين»... الخبر((2)).

قال السيِّد الخوئي 1 في معجم رجاله بعد إيراد هذه الرواية: (يظهر من الرواية الأخيرة أنَّ قصَّة ولادة محمّد بن عليِّ بن الحسين بدعاء الإمام (عليه السلام) أمر مستفيض معروف متسالم عليه...) إلي آخر كلامه((3)).

وروي الصدوق (رحمه الله) في (كمال الدِّين) عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الأسود 2، قال: سألني عليُّ بن الحسين بن موسي بن بابويه 2 بعد موت محمّد بن عثمان العمري 2 أنْ أسأل أبا القاسم الروحي أنْ يسأل مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) أنْ يدعو الله عزوجل أنْ يرزقه ولداً ذكراً، قال: فسألته، فأنهي

ص: 183


1- ()4() تقدَّم تخريجه في (ص 77)، فراجع.
2- ()1() الغيبة للطوسي (ص 308 و309/ الرقم 261).
3- ()2() معجم رجال الحديث (ج 17/ ص 346).

ذلك، ثمّ أخبرني بعد ذلك بثلاثة أيّام أنَّه قد دعا لعليِّ بن الحسين، وأنَّه سيُولَد له ولد مبارك ينفع )الله( به، وبعده أولاد... الخبر((1)).

وليس في سندها إلَّا محمّد بن عليٍّ الأسود، وقد ترحَّم عليه الشيخ الصدوق وترضّي عليه، فتكون الرواية تامَّة سنداً، لا أقلّ علي بعض المباني.

تسالم الطائفة علي وثاقة السفراء:

لقد كانت وثاقة السفراء وجلالة قدرهم وعظم منزلتهم أمراً متسالماً عليه بين علماء الطائفة، ولم يقبل ذلك أيّ تشكيك من أهل الفنِّ والاختصاص.

ورد في كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي (رحمه الله): (وكانت توقيعات صاحب الأمر (عليه السلام) تخرج علي يديّ عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان إلي شيعته وخواصِّ أبيه أبي محمّد (عليه السلام) بالأمر والنهي والأجوبة عمَّا يسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلي السؤال فيه بالخطِّ الذي كان يخرج في حياة الحسن (عليه السلام)، فلم تزل الشيعة مقيمة علي عدالتهما إلي أنْ تُوفّي عثمان بن سعيد (رحمه الله ورضي عنه)، وغسَّله ابنه أبو جعفر، وتولّي القيام به، وحصل الأمر كلُّه مردوداً إليه، والشيعة مجتمعة علي عدالته وثقته وأمانته، لما تقدَّم له من النصِّ عليه بالأمانة والعدالة والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن (عليه السلام)، وبعد موته في حياة أبيه عثمان (رحمة الله عليه))((2)).

وفي الاحتجاج: (وأمَّا الأبواب المرضيُّون والسفراء الممدوحون في زمان الغيبة:

ص: 184


1- ()3() كمال الدِّين (ص 502 و503/ باب 45/ ح 31).
2- ()1() الغيبة للطوسي (ص 356 و357/ ح 318).

فأوَّلهم: الشيخ الموثوق به أبو عمرو (عثمان) بن سعيد العمري. نصبه أوَّلاً أبو الحسن عليُّ بن محمّد العسكري، ثمّ ابنه أبو محمّد الحسن، فتولّي القيام بأُمورهما حال حياتهما (عليهما السلام)، ثمّ بعد ذلك قام بأمر صاحب الزمان (عليه السلام)، وكان توقيعاته وجواب المسائل تخرج علي يديه.

فلمَّا مضي لسبيله، قام ابنه أبو جعفر (محمّد) بن عثمان مقامه،وناب منابه في جميع ذلك.

فلمَّا مضي هو، قام بذلك أبو القاسم (حسين بن روح) من بني نوبخت.

فلمَّا مضي هو، قام مقامه أبو الحسن (عليُّ) بن محمّد السمري.

ولم يقم أحد منهم بذلك إلَّا بنصٍّ عليه من قِبَل صاحب الأمر (عليه السلام)، ونصب صاحبه الذي تقدَّم عليه، ولم تقبل الشيعة قولهم إلَّا بعد ظهور آية معجزة تظهر علي يد كلِّ واحدٍ منهم من قِبَل صاحب الأمر (عليه السلام)، تدلُّ علي صدق مقالتهم ، وصحَّة بابيَّتهم)((1)).

وورد في خاتمة الوسائل في الفائدة السابعة: (وأمَّا الجماعة الذين وثَّقهم الأئمَّة (عليهما السلام) وأثنوا عليهم، وأمروا بالرجوع إليهم والعمل برواياتهم ونصبوهم وكلاء وجعلوهم مرجعاً للشيعة فهم كثيرون، ونحن نذكر جملة منهم، وأكثرهم مذكور في كتاب (الغيبة) للشيخ.

وقد تقدَّم بعضهم في القضاء، ويأتي جملة أُخري منهم.

فمن أجلّائهم وعظمائهم:

محمّد بن عثمان العمري، وعثمان بن سعيد العمري، والحسين بن روح النوبختي، وعليُّ بن محمّد السمري...) إلي آخر كلامه((2)).

ص: 185


1- ()1() الاحتجاج (ج 2/ ص 296 و297).
2- ()2() وسائل الشيعة (ج 30/ ص 232).

وقال الشيخ الحائري (رحمه الله) في (منتهي المقال) بحقِّ العمريين: (حالهما في العظمة والجلالة والثقة أظهر من أنْ يحتاج إلي بيان)((1)).

وقال المامقاني (رحمه الله) بحقِّ عثمان بن سعيد: (جلالة شأن الرجل وعلوُّقدره ومنزلته في الإماميَّة أشهر من أنْ يحتاج إلي بيان وإقامة برهان)((2)).

وفي الغيبة للطوسي: قال أبو العبّاس: وأخبرني هبة الله بن محمّد ابن بنت أُمِّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري 2، عن شيوخه، قالوا: لم تزل الشيعة مقيمة علي عدالة عثمان بن سعيد (ومحمّد بن عثمان (رحمها الله تعالي) إلي أنْ تُوفّي أبو عمرو عثمان ابن سعيد) (رحمه الله تعالي)، وغسَّله ابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان، وتولّي القيام به، وجعل الأمر كلَّه مردوداً إليه، والشيعة مجتمعة علي عدالته وثقته وأمانته، لما تقدَّم له من النصِّ عليه بالأمانة والعدالة، والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن (عليه السلام) وبعد موته في حياة أبيه عثمان بن سعيد، لا يُختَلف في عدالته، ولا يُرتاب بأمانته، والتوقيعات تخرج علي يده إلي الشيعة في المهمّات طول حياته بالخطِّ الذي كانت تخرج في حياة أبيه عثمان، لا يعرف الشيعة في هذا الأمر غيره، ولا يُرجَع إلي أحد سواه.

وقد نُقِلَت عنه دلائل كثيرة، ومعجزات الإمام ظهرت علي يده، وأُمور أخبرهم بها عنه زادتهم في هذا الأمر بصيرة... إلي آخر كلامه((3)).

وأبو العبّاس هو أحمد بن عليِّ بن نوح، وهو من مشايخ النجاشي، وهو ثقة((4)).

ص: 186


1- ()3() منتهي المقال (ج 6/ ص 108).
2- ()1() تنقيح المقال (ج 3/ ص 149/ الرقم 11051).
3- ()2() الغيبة للطوسي (ص 362 و363/ ح 327).
4- ()3() راجع: معجم رجال الحديث (ج 3/ ص 146 و147/ الرقم 1001).

وهبة الله هو هبة الله بن أحمد بن محمّد الكاتب المعروف بابن برينة، وقد ذكر السيِّد الخوئي 1 في معجم رجاله عن النجاشي أنَّه رأي أبا العبّاسابن نوح قد عوَّل عليه في كتابه (أخبار الوكلاء)، وكان هذا الرجل كثير الزيارات، وآخر زيارة حضرها معنا - كما قال النجاشي - يوم الغدير سنة أربعمائة بمشهد أمير المؤمنين (عليه السلام)((1)).

كلمات الرجاليِّين في حقِّ السفير الثالث (رضي الله عنه):

قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في مدح الحسين بن روح 2: (وكان أبو القاسم (رحمه الله) من أعقل الناس عند المخالف والموافق، ويستعمل التقيَّة، فروي أبو نصر هبة الله بن محمّد، قال: حدَّثني أبو عبد الله بن غالب حمو أبي الحسن بن أبي الطيِّب، قال: ما رأيت من هو أعقل من الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح)((2)).

وقال ابن حجر العسقلاني في ترجمته: (أحد رؤساء الشيعة في خلافة المقتدر، وله وقائع في ذلك مع الوزراء...)، إلي أنْ قال: (وإنَّه كان كثير الجلالة في بغداد)((3)).

وقال السيِّد الخوئي 1: (النوبختي أبو القاسم: هو أحد السفراء والنوّاب الخاصَّة للإمام الثاني عشر عجل الله تعالي فرجه والشريفه، وشهرة جلالته وعظمته أغنتنا عن الإطالة في شأنه)((4)).

ص: 187


1- ()1() راجع: معجم رجال الحديث (ج 20/ ص 276/ الرقم 13316).
2- ()2() الغيبة للطوسي (ص 384 و385/ ح 347).
3- ()3() لسان الميزان (ج 2/ ص 283/ الرقم 1177).
4- ()4() معجم رجال الحديث (ج 6/ ص 257/ الرقم 3406).

كلمات الرجاليِّين في حقِّ السفير الرابع (رضي الله عنه):

لقد اتَّفقت كلمة أصحاب التراجم علي وثاقة وجلالة أبي الحسن عليِّبن محمّد السمري، فقد قال الحائري في منتهي مقاله: (عليُّ بن محمّد السمري، من السفراء والنوّاب، وجلالته تُغني عن التعرُّض لحاله)((1)).

وقال الأصفهاني في (ثقاة الرواة): (رابع السفراء والنوّاب الأربعة للإمام الثاني عشر المنتظر الحجَّة بن الحسن العسكري (عليه السلام)...)، إلي أنْ قال: (فكفي في وثاقته وجلالة شأنه وعلوِّ منزلته أنَّه منصوب من قِبَله (عليه السلام) بعنوان الخاصِّ)((2)).

وقال المامقاني فيه: (هو السفير بعد أبي القاسم بن روح، وثقته وجلالته أشهر من أنْ تُذكَر وأظهر من أنْ تُحرَز، فهو كالشمس لا يحتاج إلي بيان نوره)((3)).

سكوت متقدِّمي الرجاليِّين لا يُسبِّب مغمزاً:

إنَّ من اللافت أنَّ بعض الأعاظم من الرواة لم يتعرَّض لهم متقدِّمو الرجاليِّين بجرح أو تعديل، ومن أمثلة ذلك السفراء الأربعة أو بعضهم في الحدِّ الأدني، إلَّا أنَّ ذلك لا يعني الجهالة في حال هؤلاء الأعاظم، إذ بعض الرواة يكون بدرجة من عظم المنزلة بحيث يصبح توثيقه من نفل القول وتحصيل الحاصل، فالشمس الساطعة في نهار الأرض لا يحتاج إثباتها إلي دليل. وهكذا الحال في جملة من الأعاظم، وهكذا استدلَّ البعض علي وثاقة بعض المسكوت عن توثيقهم في التراجم، كالقاسم بن عروة الذي استدلَّ الميرزا جواد التبريزي في درسه علي وثاقته بذلك، إذ نفس نقل عدد من أكابر الرواة عنه مع سكوت الرجاليِّين عن التعرُّض لتوثيقه قداعتبره دليلاً علي وثاقته، وسكوت بعض

ص: 188


1- ()1() منتهي المقال (ج 5/ ص 57/ الرقم 2092).
2- ()2() ثقاة الرواة (ج 3/ ص 60).
3- ()3() تنقيح المقال (ج 2/ ص 305/ الرقم 8476).

مؤسِّسي علم الجرح والتعديل عن وثاقة السفراء الأربعة مع تداول مسألة سفارتهم بهذا المقدار من الاتِّساع لدليل واضح علي أنَّهم فوق كلِّ مغمز وأعظم من أنْ ينالوا بجرح في وثاقة النقل، وكفي بذلك شاهداً علي الوثاقة.

عدم معرفة خطِّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه لا يمنع من الجزم بخروج التوقيع عنه:

ومن الشبهات التي تُلقي في هذه الأيّام فيما يرجع إلي توقيعات الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه أنَّه لا يوجد شخص اطَّلع علي خطِّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه ليعرف أنَّها خرجت منه، فقد تكون تلك رسائل من غيره وتُنسَب إليه.

وما أعجب مثل هذه التُّرَّهات، خصوصاً من منتسب إلي مدرسة أهل البيت (عليهما السلام)، ولنبدأ أوَّلاً بالروايات التي دلَّت علي أنَّ خطَّه عجل الله تعالي فرجه والشريفه كان معروفاً.

قال الطوسي (رحمه الله) في (الغيبة): وأخبرني جماعة، عن هارون بن موسي، عن محمّد بن همّام، قال: قال لي عبد الله بن جعفر الحميري: لمَّا مضي أبو عمرو (رضي الله تعالي عنه) أتتنا الكُتُب بالخطِّ الذي كنّا نكاتب به بإقامة أبي جعفر (رضي الله عنه) مقامه((1)).

وقال (رحمه الله) أيضاً: وأخبرنا جماعة، عن أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه وأبي غالب الزراري وأبي محمّد التلعكبري كلُّهم، عن محمّد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري (رحمه الله) أنْ يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ. فوقع التوقيع بخطِّ مولانا صاحب الدار (عليه السلام): «... وأمَّا محمّد بن عثمان العمري فرضي اللهتعالي عنه وعن أبيه من قبل، فإنَّه ثقتي وكتابه كتابي»((2)).

ص: 189


1- ()1() الغيبة للطوسي (ص 362/ الرقم 324).
2- ()1() الغيبة للطوسي (ص 362/ ح 326).

وظاهر الرواية أنَّ إسحاق بن يعقوب كان يعرف خطَّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه، كما أنَّ جهالة الجماعة الذين رووا عن جعفر بن محمّد بن قولويه قد لا تمنع من الاستناد إلي هذه الرواية، وذلك:

أوَّلاً: لأنَّهم جماعة، فيقوي بحساب الاحتمال صدق أحدهم.

وثانياً: رووا عن ثلاثة، وظاهر السند أنَّ الجماعة كلُّهم رووا عن الثلاثة، ويبعد أنْ يكذب الجميع من خلال نسبة الخبر إلي الثلاثة كلِّهم.

وثالثاً: أنَّ مضمون الرواية قد ورد في روايات معتبرة، ومن البعيد أنْ يتَّفق الثلاثة علي الكذب في خصوص كلمة (بخطِّ مولانا)، ولا أثر كبيراً يترتَّب علي ذلك - أي علي قولهم: مولانا - ليقال: إنَّ هناك ما دعا الجميع إلي إضافة هذه الكلمة عند وضعهم للرواية علي فرض ذلك؛ إذ كأنَّه قال: فخرج التوقيع؛ إذ كان الأتباع يفهمون أنَّ المراد خطَّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

وإسحاق بن يعقوب قد روي الكشّي توقيعاً يتضمَّن مدحه((1)).

وقال الطوسي (رحمه الله): وذكر أبو نصر هبة الله )بن( محمّد بن أحمد أنَّ أبا جعفر العمري (رحمه الله) مات في سنة أربع وثلاثمائة، وأنَّه كان يتولّي هذا الأمر نحواً من خمسين سنة يحمل الناس إليه أموالهم، ويُخرج إليهم التوقيعات بالخطِّ الذي كان يخرج في حياة الحسن (عليه السلام) إليهم بالمهمّات في أمر الدِّين والدنيا وفيما يسألونه من المسائل بالأجوبة العجيبة (رضي الله عنه وأرضاه)((2)).

وأبو نصر وإنْ لم يُنَص علي توثيقه لكن ذكر النجاشي أنَّه رأي أباالعبّاس ابن نوح قد عوَّل عليه في كتابه (أخبار الوكلاء)، وكان هذا الرجل كثير الزيارات كما مرَّ((3)).

ص: 190


1- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 3/ص 236 و237/الرقم 1201)، وليس فيه ذكر للتوقيع.
2- ()3() الغيبة للطوسي (ص 366/ ح 334).
3- ()1() تقدَّم في (ص 187)، فراجع.

وكيف كان، فالرواية صريحة في معرفتهم بالخطِّ الذي كان يخرج التوقيع به.

ثمّ أيَّة حاجة إلي معرفة خطِّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه لنقبل توقيعه؟ وهل سجَّل الرواة فيما سبق أصوات الأئمَّة (عليهما السلام) وأسمعوها للناس الذين كانوا يعرفون صوت الإمام (عليه السلام) لأجل أنْ يقبلوها؟ ما لكم كيف تحكمون؟ إنَّ مجرَّد وثاقة الطريق كافية للاعتماد، بل لم تكتفِ الناس بالوثاقة فقط حتَّي قطعوا الشكَّ باليقين.

وقد قال الطبرسي (رحمه الله) في (الاحتجاج): (ولم تقبل الشيعة قولهم إلَّا بعد ظهور آية معجزة تظهر علي يد كلِّ واحدٍ منهم من قِبَل صاحب الأمر (عليه السلام)، تدلُّ علي صدق مقالتهم، وصحَّة بابيَّتهم)((1)).

وهذا ما يحتاج إلي بيان مقدّمته ومآله.

إنَّ ميزة الإنسان التي أهَّلته للاستخلاف في الأرض دون سواه من المخلوقات بما في ذلك الملائكة تتمثَّل في قابليَّته للتعلُّم، ومن هنا حين أراد الله تعالي أنْ يرفع منشأ التساؤل والشكِّ في نفوس الملائكة عند تساؤلهم عن الحكمة في اختياره دونهم لهذه المسؤوليَّة الكبري أظهر لهم من خلال موقف عملي قابليَّة الإنسان للتعلُّم بعد أنْ علَّمه الأسماء كلَّها، ولم يقع بعد ذلك تساؤل منهم؛ إذ ارتفع المنشأ.

ويبقي سعي الإنسان للاستزادة المعرفيَّة ملازماً له إلي آخر لحظة في عمره؛ إذ إنَّ الله تبارك وتعالي قد أعمل التكوين من خلال خلقة هذاالنوع متَّصفاً بحُبِّ الاطِّلاع؛ لأنَّ ذلك عنصر أساسي في عمليَّة ارتقائه وتكامله، الذي هو غاية لخلقته.

ولمَّا كانت المعرفة أسيرة البرهان والاستدلال في أغلب الحالات، كان الشارع المقدَّس يحثُّ علي التفكُّر والتدبُّر والسعي لطلب العلم، والإشادة بالعلماء والمتعلِّمين.

ص: 191


1- ()2() الاحتجاج (ج 2/ ص 297).

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9).

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (المجادلة: 11).

وكان مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء((1))، والملائكة تخفض أجنحتها لطالب العلم((2))، ومن هنا أيضاً تكفَّل الله تعالي تهيئة ما يوصل الناس إلي المعتقد الحقِّ.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْأَفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فُصِّلت: 53).

ومن هنا أيضاً كان حقًّا للناس علي الأنبياء أنْ يأتوهم بالآيات والبيِّنات والشواهد التي لا تقبل الشكَّ علي صدق مدَّعاهم.

(تِلْكَ الْقُري نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) (الأعراف: 101).(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلي قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) (الروم: 47).

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) (الحديد: 25).

لا يقبل في الإيمان إلَّا ما كان مبتنياً علي رؤية واضحة وبرهان مبين، وما سواه يكون مورداً للسؤال والمؤاخذة.

(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَي اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ 68) (يونس: 68).

ص: 192


1- ()1() عن مدرك بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام)، قال: «إذا كان يوم القيامة جمع الله عزوجل الناس في صعيد واحد، ووُضِعَت الموازين، فتُوزَن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء علي دماء الشهداء» (من لا يحضره الفقيه: ج 4/ص 399/ح 5853).
2- ()2() عن القدّاح، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلي الجنَّة، وإنَّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به...» (الكافي: ج 1/ ص 34/ باب ثواب العالم والمتعلِّم/ ح 1).

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً 36) (الإسراء: 36).

لقد شقَّ الله تعالي البحر، وأنطق عيسي (عليه السلام) في المهد صبيًّا، ومُنِعَت النار عن حرق إبراهيم (عليه السلام)، وسخرت الرياح غدوّها شهر ورواحها شهر لسليمان (عليه السلام)، ورفع الجبل فوق بني إسرائيل كأنَّه ظلَّة، ودُعيت الشجرة فجاءت تخدُّ الأرض سعياً للنبيِّ الأكرم (صلي الله عليه وآله)، وغير ذلك من مئات المعاجز التي جاء بها الأنبياء (عليهما السلام) للبشر؛ لأنَّ الله تعالي لم يرد من الناس أنْ يؤمنوا دون برهان واضح ودليل بيِّن. فهل تراه تعالي يريد منّا الاعتقاد بممثِّل للإمام وسفير له في خلقه دون أنْ يفتح للناس باب طلب ما يمكن أن يكون فيصلاً في إثبات حقّانيَّة الدعوي أو زيفها؟ خصوصاً والمسألة ممَّا يكثر فيها الادِّعاء من طلّاب الدنيا والمورد مورد مغمز للمشكِّكين.

إنَّ مجرَّد نقل خبر أو حادثة قد لا يحتاج أكثر من الوثاقة، وتلك حالة نعيش تطبيقاتها في كلِّ يوم تقريباً، وجرت عليها طريقة العقلاء، وارتضاها الشارع المقدَّس في التعامل مع ما يُنسَب إليه حين أمضي هذه السيرة ولم يردع عنها، وقد قال جمع من علمائنا بدلالة الآية الشريفة: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: 6) علي حجّيَّة خبر العادل،وربَّما عُمِّم ذلك إلي كلِّ ثقة.

ولكن في الأُمور العظيمة لا يُكتفي بمجرَّد الوثاقة، ولذا لم يقبل الناس بنبوَّة النبيِّ (صلي الله عليه وآله) بمجرَّد وثاقته، مع أنَّهم كانوا يعرفونه بصفة الصادق الأمين، بل يمكن تعميم ذلك إلي كلِّ الأنبياء (عليهما السلام) حيث إنّا نعتقد بعصمتهم حتَّي في فترة ما قبل النبوَّة، ممَّا يعني بحسب العادة ثبوت الوثاقة والصدق والأمانة في النقل عند من يعرفهم، ومع ذلك لم تكتفِ الناس بذلك حتَّي جاءتهم المعجزات، بل لم يُكلِّفهم الله تعالي بالإيمان إلَّا بعد البرهان القاطع، إذ كان الإرسال بالآيات.

ص: 193

بل لم يقتصر الشارع المقدَّس في نبوّات الأنبياء ووصاية الأوصياء علي بلاغ وإعلام من نبيٍّ ثبتت نبوَّته أو إخبار من وصيٍّ قام الدليل القطعي علي كونه وصيًّا.

وهكذا هي السفارة، نعم لا يُعتَبر أنْ يأتي هو بمعجزة، بل يكفي أنْ يأتي معه برهان علي ذلك ولو كان الذي أتي به هو الإمام (عليه السلام)، وهذا ما حدث كثيراً حين كان السفير ينقل إلي الناس بعض ما يخفي علي عامَّتهم، وقد يكون بعض ما يقوله لهم ممَّا كان شاهداً علي صدق سفارته تفصيلاً أخذه من الإمام (عليه السلام).

وبعض هذه الإخبارات وإنْ لم تكن بمثابة الدليل البرهاني القاطع، إلَّا أنَّ ما كان في السفراء قد يُشكِّل موجباً للاطمئنان عند الكثير من الناس أوَّلاً، وثانياً أنَّه لم يقتصر عليه، بل أُضيفت له وثاقتهم المشهود عليها حتَّي من الأئمَّة المعصومين (عليهما السلام)، وعدم الخطأ في النقل: «ما أدّيا إليك فعنِّي يُؤدّيان»((1))، وخطُّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه الذي يعرفه خواصُّهم حيث كانت الكُتُب تخرجبه، وعدم كونهم ذوي قرابة مع بعضهم إلَّا السفير الأوَّل والثاني، وإخبار الرابع منهم أنَّه آخر هذه السلسلة، وغير ذلك من الشواهد والدلائل التي يُجزم من خلالها بأنَّهم لم يحكوا من أنفسهم وإنَّما كانوا واسطة بين الإمام المعصوم (عليه السلام) وشيعته، فهي كانت بمثابة التمهيد لسدِّ باب التواصل ولو بالواسطة مع الإمام الغائب عجل الله تعالي فرجه والشريفه.

وقد كانت الشيعة تطالب المدَّعين - عندما يشكُّون فيهم - بالأشياء الخارقة للتمييز بين دعوي الحقِّ وفريَّة الباطل، وفي الرواية عن الحسين بن إبراهيم، عن أبي العبّاس أحمد بن عليِّ بن نوح، عن أبي نصر هبة الله بن محمّد الكاتب ابن بنت أُمِّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري، قال: لمَّا أراد الله تعالي أنْ يكشف أمر الحلّاج ويُظهِر فضيحته ويُخزيه، وقع له أنَّ أبا سهل إسماعيل بن عليٍّ

ص: 194


1- ()1() الكافي (ج 1/ ص 329 و330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1).

النوبختي 2 ممَّن تجوز عليه مخرقته وتتمُّ عليه حيلته، فوجَّه إليه يستدعيه، وظنَّ أنَّ أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر أنْ يستجرَّه إليه فيتمخرق (به) ويتسوَّف بانقياده علي غيره، فيستتبُّ له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة علي الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحلِّه من العلم والأدب أيضاً عندهم.

ويقول له في مراسلته إيّاه: إنّي وكيل صاحب الزمان (عليه السلام) - وبهذا أوَّلاً كان يستجرُّ الجُهّال ثم يعلو منه إلي غيره -، وقد أُمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر.

فأرسل إليه أبو سهل 2 يقول له: إنّي أسألك أمراً يسيراً يخفُّ مثله عليك في جنب ما ظهر علي يديك من الدلائل والبراهين، وهو أنّي رجل أُحِبُّ الجواري وأصبو إليهنَّ، ولي منهنَّ عدَّة أتحظّاهنَّ، والشيب يُبعدني عنهنَّ )ويُبغِّضني إليهنَّ(، وأحتاج أنْ أخضبه في كلِّ جمعة، وأتحمَّل منهمشقَّة شديدة لأستر عنهنَّ ذلك، وإلَّا انكشف أمري عندهنَّ، فصار القرب بعداً والوصال هجراً، وأُريد أنْ تُغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإنّي طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداعٍ إلي مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة.

فلمَّا سمع ذلك الحلّاج من قوله وجوابه عَلِمَ أنَّه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جواباً، ولم يُرسِل إليه رسولاً، وصيَّره أبو سهل 2 أُحدوثة وضحكة ويُطنِّز به عند كلِّ أحد، وشهَّر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه((1)).

وفي رواية عن (كمال الدِّين)، قال: حدَّثنا أبو الأديان: ... فنحن جلوس

ص: 195


1- ()1() الغيبة للطوسي (ص 401 و402/ ح 376).

إذ قَدِمَ نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)، فعرفوا موته، فقالوا: فمن (نُعزّي)؟ فأشار الناس إلي جعفر بن عليٍّ، فسلَّموا عليه وعزُّوه وهنُّوه، وقالوا: إنَّ معنا كُتُباً ومالاً، فتقول ممَّن الكتب وكم المال.

فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منّا أنْ نعلم الغيب.

قال: فخرج الخادم، فقال: معكم كُتُب فلان وفلان (وفلان)، وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطليَّة، فدفعوا إليه الكُتُب والمال وقالوا: الذي وجَّه بك لأخذ ذلك هو الإمام((1)).

وفي أُخري: لمَّا قُبِضَ سيِّدنا أبو محمّد الحسن بن عليٍّ العسكري (صلوات الله عليهما) وفد من قم والجبال وفود بالأموال التي كانت تُحمَل علي الرسم والعادة، ولم يكن عندهم خبر وفاة الحسن (عليه السلام)، فلمَّا أنْ وصلواإلي سُرَّ من رأي سألوا عن سيِّدنا الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)، فقيل لهم: إنَّه قد فُقِدَ، فقالوا: ومن وارثه؟ قالوا: أخوه جعفر بن عليٍّ، فسألوا عنه، فقيل لهم: إنَّه قد خرج متنزِّهاً وركب زورقاً في الدجلة يشرب ومعه المغنُّون.

قال: فتشاور القوم، فقالوا: هذه ليست من صفة الإمام، وقال بعضهم لبعض: امضوا بنا حتَّي نردَّ هذه الأموال علي أصحابها.

فقال أبو العبّاس محمّد بن جعفر الحميري القمّي: قفوا بنا حتَّي ينصرف هذا الرجل ونختبر أمره بالصحَّة.

قال: فلمَّا انصرف دخلوا عليه، فسلَّموا عليه، وقالوا: يا سيِّدنا نحن من أهل قم ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها، وكنّا نحمل إلي سيِّدنا أبي محمّد الحسن ابن عليٍّ الأموال.

فقال: وأين هي؟

ص: 196


1- ()2() كمال الدِّين (ص 476/ باب 43/ ح 25).

قالوا: معنا.

قال: احملوها إليَّ.

قالوا: لا، إنَّ لهذه الأموال خبراً طريفاً.

فقال: وما هو؟

قالوا: إنَّ هذه الأموال تُجمَع ويكون فيها من عامَّة الشيعة الدينار والديناران، ثمّ يجعلونها في كيس ويختمون عليه، وكنّا إذا وردنا بالمال علي سيِّدنا أبي محمّد (عليه السلام) يقول: جملة المال كذا وكذا ديناراً، من عند فلان كذا ومن عند فلان كذا حتَّي يأتي علي أسماء الناس كلِّهم، ويقول ما علي الخواتيم من نقش.

فقال جعفر: كذبتم، تقولون علي أخي ما لا يفعله، هذا علم الغيب...الخبر((1)).

وهناك موارد عديدة كانت تُظهِر دلائل الصدق وشواهد الحقِّ من دون سعي للاختبار من قِبَل السائل، كان يُخبره السفير أو الوكيل بما أضمره في نفسه أو يأتي الجواب في رقعته التي طلبها مع الإشارة إلي شيء ممَّا يُثبِت أنَّ من جاء بالرقعة لم يأتِ بها من نفسه، أو يُخبره عن شيء سيحصل له في قادم الأيّام أو يدعو له بأمر فيُقضي.

وما أكثر ما ذكرته الروايات في ذلك، ومثاله ما رواه الصدوق (رحمه الله) في (كمال الدِّين) عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الأسود 2، قال: سألني عليُّ بن الحسين بن موسي بن بابويه 2 بعد موت محمّد بن عثمان العمري 2 أنْ أسأل أبا القاسم الروحي أنْ يسأل مولانا صاحب الزمان (عليه السلام) أنْ يدعو الله عزوجل أنْ يرزقه ولداً ذكراً، قال: فسألته، فأنهي ذلك، ثمّ أخبرني بعد ذلك بثلاثة أيّام أنَّه قد دعا لعليِّ بن الحسين، وأنَّه سيُولَد له ولد مبارك ينفع )الله( به، وبعده أولاد.

ص: 197


1- ()1() كمال الدِّين (ص 476 و477/ باب 43/ ح 26).

قال أبو جعفر محمّد بن عليٍّ الأسود 2: وسألته في أمر نفسي أنْ يدعو الله لي أنْ يرزقني ولداً ذَكَراً، فلم يجبني إليه، وقال: ليس إلي هذا سبيل.

قال: فوُلِدَ لعليِّ بن الحسين 2 محمّد بن عليٍّ وبعده أولاد، ولم يُولَد لي شيء((1)).

والرواية تامَّة سنداً، إذ ليس في سندها إلَّا محمّد بن عليٍّ الأسود، ويكفي لقبول روايته ترضّي الصدوق عليه، كما بني البعض عليه، وإنْ لميقبل هذا المبني آخرون.

ومحلُّ الاستشهاد بالرواية إخبار الصدوق الأب أنَّه سيُرزَق ولداً مباركاً ينفع الله به وبعده أولاد.

ومثاله الآخر ما رواه الصدوق (رحمه الله) عن شيخه الحسين بن عليِّ بن محمّد القمّي المعروف بأبي عليٍّ البغدادي، قال: كنت ببخاري، فدفع إليَّ المعروف بابن جاوشير عشرة سبائك ذهباً، وأمرني أنْ أُسلِّمها بمدينة السلام إلي الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحه)، فحملتها معي، فلمَّا بلغت آمويه ضاعت منّي سبيكة من تلك السبائك، ولم أعلم بذلك حتَّي دخلت مدينة السلام، فأخرجت السبائك لأُسلِّمها، فوجدتها قد نقصت واحدة، فاشتريت سبيكة مكانها بوزنها وأضفتها إلي التسع السبائك، ثمّ دخلت علي الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحه) ووضعت السبائك بين يديه، فقال لي: خذ تلك السبيكة التي اشتريتها - وأشار إليها بيده -، وقال: إنَّ السبيكة التي ضيَّعتها قد وصلت إلينا، وهو ذا هي، ثمّ أخرج إليَّ تلك السبيكة التي كانت ضاعت منّي بآمويه، فنظرت إليها فعرفتها.

قال الحسين بن عليِّ بن محمّد المعروف بأبي عليٍّ البغدادي: ورأيت تلك

ص: 198


1- ()2() كمال الدِّين (ص 502 و503/ باب 45/ ح 31).

السنة بمدينة السلام امرأة، فسألتني عن وكيل مولانا (عليه السلام) من هو؟ فأخبرها بعض القمّيِّين أنَّه أبو القاسم الحسين بن روح وأشار إليها، فدخلت عليه وأنا عنده، فقالت له: أيُّها الشيخ أيّ شيء معي؟

فقال: ما معكِ فألقيه في الدجلة، ثمّ ائتيني حتَّي أُخبرك.

قال: فذهبت المرأة وحملت ما كان معها فألقته في الدجلة، ثمّ رجعت ودخلت إلي أبي القاسم الروحي (قدَّس الله روحه)، فقال أبو القاسم لمملوكةله: أخرجي إليَّ الحُقَّ، فأخرجت إليه حُقَّة، فقال للمرأة: هذه الحُقَّة التي كانت معكِ ورميتِ بها في الدجلة، أُخبرك بما فيها أو تُخبريني؟

فقالت له: بل أخبرني أنت.

فقال: في هذه الحُقَّة زوج سوار ذهب، وحلقة كبيرة فيها جوهرة، وحلقتان صغيرتان فيهما جوهر، وخاتمان أحدهما فيروزج والآخر عقيق.

فكان الأمر كما ذكر، لم يغادر منه شيئاً، ثمّ فتح الحُقَّة فعرض عليَّ ما فيها فنظرت المرأة إليه، فقالت: هذا الذي حملته بعينه ورميت به في الدجلة، فغشي عليَّ وعلي المرأة فرحاً بما شاهدناه من صدق الدلالة((1)).

وليس في السند إلَّا الحسين بن عليِّ بن محمّد القمّي، وهو شيخ الصدوق (رحمه الله)((2)).

ونكتفي بهذا المقدار لأنَّنا لسنا بصدد الاستقصاء وجمع كلِّ الشواهد علي ذلك، وهذه الرواية الأخيرة وإنْ كانت المرأة بصدد الاختبار، إلَّا أنَّ السفير الثالث أظهر صدق محلِّه بالإتيان بشيء آخر أكثر ممَّا طلبته.

ص: 199


1- ()1() كمال الدِّين (ص 518 و519/ باب 45/ ح 47).
2- ()2() راجع: معجم رجال الحديث (ج 7/ ص 54/ الرقم 3549).

ص: 200

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - الاحتجاج: الطبرسي/ تحقيق: محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ه-.

3 - الاختصاص: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

4 - اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مطبعة بعثت/ قم/ مؤسَّسة آل البيت (عليهما السلام)/ 1404ه-.

5 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ تحقيق: مؤسَّسة آل البيت (عليهما السلام)/ ط 2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

6 - الأمالي: الشيخ الطوسي/ تحقيق: مؤسَّسة البعثة/ ط 1/ 1414ه-/ دار الثقافة/ قم.

7 - بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ه-/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.

8 - تفسير العيّاشي: العيّاشي/ تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي/ المكتبة العلميَّة الإسلاميَّة/ طهران.

9 - تفسير القمّي: عليُّ بن إبراهيم القمّي/ تحقيق: طيِّب الجزائري/ ط 3/ 1404ه-/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.

10 - تفسير نور الثقلين: الحويزي/ تحقيق: هاشم الرسوليالمحلّاتي/

ص: 201

ط 4/ 1412ه-/ مؤسَّسة إسماعيليان/ قم.

11 - تنقيح المقال: الشيخ عبد الله المامقاني/ مطبعة المرتضويَّة/ النجف الأشرف.

12 - الخرائج والجرائح: قطب الدِّين الراوندي/ ط 1 كاملة محقَّقة/ 1409ه-/ مؤسَّسة الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه والشريفه/ قم.

13 - دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ ط 1/ 1413ه-/ مؤسَّسة البعثة/ قم.

14 - رجال ابن داود: ابن داود الحلّي/ تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم/ 1392ه-/ منشورات المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.

15 - رجال الطوسي: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1415ه-/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.

16 - رجال النجاشي: النجاشي/ ط 5/ 1416ه-/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

17 - عقائد الإماميَّة: محمّد رضا المظفَّر/ انتشارات أنصاريان/ قم.

18 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه-/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.

19 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق/ تحقيق: حسين الأعلمي/ 1404ه-/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

20 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411ه-/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.

21 - الغيبة: النعماني/ تحقيق: فارس حسّون كريم/ ط 1/ 1422ه-/ مطبعة مهر/ أنوار الهدي.

ص: 202

22 - الفهرست: الشيخ الطوسي/ تحقيق: جواد القيّومي/ ط 1/ 1417ه-/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.

23 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط5/ 1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

24 - كشف الغمَّة: ابن أبي الفتح الإربلي/ ط 2/ 1405ه-/ دار الأضواء/ بيروت.

25 - كفاية الأثر: الخزّاز القمّي/ تحقيق: عبد اللطيف الكوه­كمري الخوئي/ 1401ه-/ مطبعة الخيّام/ انتشارات بيدار.

26 - كمال الدِّين: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ 1405ه-/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

27 - لسان الميزان: ابن حجر/ ط 2/ 1390ه-/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

28 - مختصر بصائر الدَّرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط 1/ 1370ه-/ منشورات المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.

29 - مرآة العقول: العلَّامة المجلسي/ ط 2/ 1404ه-/ دار الكُتُب الإسلاميَّة.

30 - مستدرك علم رجال الحديث: عليٌّ النمازي/ ط 1/ 1412ه-/ مطبعة شفق/ طهران.

31 - مشرعة بحار الأنوار: الشيخ محمّد آصف محسني/ مؤسَّسة العارف للمطبوعات/ ط 2/ 1426ه-/ بيروت.

32 - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1411ه-/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.

ص: 203

33 - معجم البلدان: الحموي/ 1399ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

34 - معجم رجال الحديث: السيِّد الخوئي/ ط 5/ 1413ه-.

35 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

36 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهرآشوب/ تحقيق: لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه-/ المكتبة الحيدريَّة/ النجف.

37 - منتهي المقال: الشيخ المازندراني/ ط 1/ 1416ه-/ مؤسَّسة آل البيت (عليهما السلام)/ قم.

38 - نهج البلاغة: الشريف الرضي/ ضبط نصَّه الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387ه-/ بيروت.

39 - وسائل الشيعة: الحرُّ العاملي/ ط 2/ 1414ه-/ مطبعة مهر/ مؤسَّسة آل البيت (عليهما السلام)/ قم.

* * *

ص: 204

فهرست الموضوعات

مقدّمة المركز. 3

مقدّمة المؤلِّف.. 5

(1) رؤية الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه في زمن الغيبة. (صلي الله عليه وآله)

وجوه المنع/ القرآن الكريم 11

الإجماع. 14

العقل. 20

السُّنَّة. 28

(2) إثبات ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالي فرجه والشريفه 49

دعوي خفاء ذكره عجل الله تعالي فرجه والشريفه في كلمات الأوائل. 53

خفاء ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه سبب عدم معرفة عامَّة الناس به. 55

قواعد لا بدَّ من ملاحظتها 60

الأولي: تعدُّد طريق الرواية يزيد من القيمة الاحتماليَّة لثبوت مضمونها 60

الثانية: لا علاقة لبحثنا بحجّيَّة الأمارة في مثبتاتها 63

الثالثة: ظهور الرواية في معني لا يُسقِط فائدتها في إثبات معني آخر. 65

الرابعة: انتفاء المضعِّف الاحتمالي المقابل في محلِّ بحثنا 67

الخامسة: عدم تماميَّة القاعدة إثباتاً لا يلغي احتمالها ثبوتاً 68

السادسة. 69

السابعة: المهمُّ إثبات وجود الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه 70

ص: 205

طوائف الروايات الدالَّة علي ولادته عجل الله تعالي فرجه والشريفه 71

الطائفة الأُولي: ما دلَّ علي ولادته مطابقةً. 72

الطائفة الثانية: فيمن رآه عجل الله تعالي فرجه والشريفه 78

الطائفة الثالثة: ما ظهر من معجزاته عجل الله تعالي فرجه والشريفه 82

الطائفة الرابعة: النصُّ علي أسماء الأئمَّة (عليهما السلام). 85

الطائفة الخامسة: نصُّ آبائه (عليهما السلام) علي أنَّه عجل الله تعالي فرجه والشريفه ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).. 92

الطائفة السادسة: إنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة. 94

الطائفة السابعة: ما دلَّ علي ضرورة معرفة إمام الزمان (عليه السلام).. 96

الطائفة الثامنة: ما نصَّ علي غيبته عجل الله تعالي فرجه والشريفه سنة (260 ه-) 99

الطائفة التاسعة: الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام من الأئمَّة (عليهما السلام). 102

الطائفة العاشرة: ما دلَّ علي أنَّه ما مات عالم فذهب علمه. 108

النتيجة. 110

لا منافاة بين تراكم الاحتمال والمباني في التواتر. 112

مؤيِّدات من القرآن والعقل/ الآيات القرآنيَّة. 114

المؤيِّدات العقليَّة. 121

الأوَّل: الوساطة في الفيض... 121

الثاني: قاعدة اللطف.. 122

الثالث: الرحمة الإلهيَّة. 127

الرابع: قياس الأولويَّة. 128

الخامس: خاتميَّة الرسالة تقتضي ضرورة وجود إمام في كلِّ زمانٍ. 131

تراكم الاحتمال لا يجري في الوجوه العقليَّة. 133

ضمُّ الوجه العقلي إلي الوجه النقلي لا يُقوّي احتماله. 134

ص: 206

الإخبارات التي تقوّي بعضها هي المخبر بها بنحو الجزم 135

ضعف دلالة آية لا ينعكس ضعفاً علي دلالة الرواية المرتبطة بها 136

الروايات الواردة في تفسير بعض الآيات قرينة احتماليَّة. 143

(3) التوقيعات المهدويَّة وإشكاليَّة عدم الصدور. 145

مقدّمة. 147

كيف نجي السفراء من متابعة الدولة العبّاسيَّة؟ 150

هل تنافي وثاقة السفير

احتمال الخطأ فيما أخبر به؟ 162

طلب البيِّنة من السفراء أمر مألوف.. 174

ما ورد في توثيق العمريين (رضي الله عنهما). 177

ما ورد في الحسين بن روح 2. 182

تسالم الطائفة علي وثاقة السفراء. 184

كلمات الرجاليِّين في حقِّ السفير الثالث 2. 187

كلمات الرجاليِّين في حقِّ السفير الرابع 2. 188

سكوت متقدِّمي الرجاليِّين لا يُسبِّب مغمزاً 188

عدم معرفة خطِّ الإمام عجل الله تعالي فرجه والشريفه لا يمنع من الجزم بخروج التوقيع عنه 189

المصادر والمراجع. 201

فهرست الموضوعات.. 205

ص: 207

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.